بينما انشغل الغرب بحكوماته وإعلامه بـ«ملاحقة» الثورات العربية المتنقلة، بقي الاهتمام بأحداث البحرين «خجولاً» مقارنة بمئات المقالات التي خصصت لـ«أزياء معمر القذافي» و«ثروات آل مبارك» و«سهرات صهر زين العابدين بن علي» ... أما البحرين فأقصى ما توصّلت إليه الرؤية الغربية لوصف الأمور هو «صراع غالبية شيعية مع عائلة سنية حاكمة».لكن التدخّل العسكري الخليجي الأخير في الجزيرة حرّك الأجواء السياسية والإعلامية وبدأت الأسئلة الاستراتيجية والاقتصادية والجيوسياسية تطرح، والمحور واحد: أميركا ـــــ السعودية ـــــ إيران.
نفط وأموال وإرهاب وقاعدة بحرية وشبح إيراني ومعركة نفوذ ... يبدو أن أزمة تلك الجزيرة الصغيرة العائمة في الخليج قد تغيّر خريطة المنطقة قريباً. كيف ستواجه الولايات المتحدة أزمة مستجدة في إحدى أكثر نقاطها الاستراتيجية حساسية؟ وهل تصرّفت السعودية فعلاً «من رأسها» بقرار التدخل العسكري ولم تُعلِم «الإدارة الأم»؟ وهل ستفوّت إيران فرصة ذهبية كهذه لمدّ نفوذها أكثر في المنطقة؟
أميركيّاً، أتقنت إدارة أوباما مجدداً لعبة الرسائل المتناقضة، فعبّرت بداية عن «قلقها بشأن دخول القوات الخليجية الى الجزيرة» لتعلن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في ما بعد أن «للبحرين الحق في طلب المساعدة للمحافظة على نظامها». متحدّث باسم البنتاغون أشار الى أن واشنطن «لم تبلّغ مسبقاً بالخطة (السعودية)»، قبل أن يوضح مسؤولون كبار في الإدارة ذاتها أن واشنطن «كانت على علم بالقرار، لكنها لم تُستَشر بشأنه». وبين اللعب على التناقض والقلق الحقيقي على مصالح أمنية وسياسية واقتصادية، لا يزال الموقف الأميركي المعلن مموّهاً ... والأكيد الوحيد هو أن شعار «الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية المواطنين ورفض العنف» الذي ترفعه الولايات المتحدة كلما «حُشرت» في موقف ما، ما عاد يوهم أحداً.
«ما يحصل في البحرين قد يغيّر صورة العالم التي اعتدنا رؤيتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية»، هكذا وصفت مجلة «ذي ناشيونال إنترست» الأميركية المحافظة تطور الأحداث في المنطقة. ليس بإمكان الولايات المتحدة أن تساند القوات السعودية بالكامل في البحرين، كما فعلت ضد الحوثيين في اليمن، وتقضي على الشيعة هناك لأنهم الأكثرية. وفي الوقت نفسه، لن يسمح حلفاء الولايات المتحدة من السنّة، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، بأن يسقط نظام سنّي آخر ويتراجع نفوذهم، هكذا يلاحظ معظم الكتّاب والمحللين في الصحف الأميركية. و«الحلفاء السنّة» للولايات المتحدة في المنطقة يعني النفط وسدّ الديون و«مكافحة الإرهاب» وأمن إسرائيل ومصالحها ... إذاً، لن تسمح أميركا بخسارة هذا الحلف. أما عن التدخل العسكري، فتؤكد مصادر دبلوماسية أن السعودية ما كانت لترسل القوات الخليجية لو لم تأخذ موافقة مسبقة من «حليفتها الأم»، ويذهب بعض المراقبين إلى القول إن إدارة أوباما تدخّلت عسكرياً في البحرين من خلال قوات خليجية مدججة بأسلحة أميركية وتتحرك بأوامر من «مفاتيح السياسة الأميركية في المنطقة». بعض المحللين العسكريين يرجّحون أن تطلب السعودية في مرحلة ما مساعدة ميدانية أميركية في خضمّ المعركة، وعندها لن ترفض هذه الأخيرة طلب حليفتها.
لكن، ماذا عن السعودية؟
المملكة «مستاءة» من إدارة أوباما منذ سقوط «الحليف السنّي الأساسي في المنطقة» حسني مبارك. بعض الآراء تقول إنه بعد سيطرة إيران على العراق وخسارة الحصان السنّي الذي راهنت عليه أميركا في لبنان، وبعد سقوط «الحصن» بنهاية نظام مبارك، وبعدما اعترفت إدارة أوباما بشرعية الثورة البحرينية، وجدت السعودية نفسها مهددة و«متروكة» فقررت أن تحمي نفسها بنفسها ومواجهة «خطر تراجع الحماية الأميركية لها في المنطقة»، فكان قرار التدخل العسكري في البحرين. ويضيف المحللون الى كل ما تقدّم عنصر «الكره الذي يكنّه السنّة للشيعة تاريخياً»، وخصوصاً في هذه المنطقة، ومحاولاتهم المتواصلة لقمعهم وعزلهم وإضعافهم.
ماذا تنتظر إيران لتقلب هذا التاريخ إذاً وتنقذ «شيعتها» وتزيد نفوذها؟
الإيرانيون يتقنون لعبة «العقل» مقابل «الذراع»، هكذا يصف البعض موقف إيران الحالي من أزمة البحرين. فهم، مقابل لجوء السعودية إلى القوة والعسكر، سيستخدمون العقل، ويعملون للحصول على أفضل النتائج من دون الوقوع في الفخّ. والفخاخ التي نصبت لإيران في المنطقة كثيرة، بدءاً من الداخل حيث المعارضة تتحرك سياسياً وميدانياً، وصولاً الى البحرين حيث العيون الأميركية مفتوحة تترصد أي «زلّة» أو أي خطأ إيراني هناك لتشهره الى العالم، وتحوّل الثورة البحرينية الى «تحرّك انقلابي مدعوم من إيران». من جهة أخرى، يلفت البعض الى توق إيران للتخلص من القاعدة البحرية الأميركية الرابضة في الخليج والتي يصفونها بأنها «قاعدة تجسس» أميركية على إيران.
من جهتهم، يستبعد البعض أن تسعى إيران الى تغيير النظام السعودي، من دون أن تضمن عدم صعود الحركات السنية الأصولية في المنطقة، وهو أمر في غاية الصعوبة. وبينما يحسم معظم المراقبين عدم تدخل إيران عسكرياً في البحرين، يخلصون الى أن الإيرانيين سيكسبون معركة «العقل» إذا ما تحرّكت سياسياً ودوّلت الأزمة البحرينية بدل حصرها بصراع «سنّي شيعي» أو «سعودي ـــــ إيراني».
... وفي زحمة الأحداث والعنف المتصاعد والخطط الاستراتيجية، ثمّة من ابتسم ملء فمه عندما تحرّكت الآليات العسكرية الخليجية ورفعت الأغطية الجلدية عن الدبابات الجديدة، وأُخرجت صناديق الذخيرة من المستودعات ... استكملت أكبر صفقات السلاح في تاريخ الولايات المتحدة والمملكة السعودية للتوّ ... حان موسم الحصاد.