عمّان| في تعليقها على أحداث الجمعة في دوار الداخليّة بعمّان، كانت المعارضة الأشرس في الأردن، توجان فيصل، الأدقّ حتى الآن في وصف ما حدث بقولها: «الحكومة وأجهزتها تواجه جيلاً جديداً يختلف عن القيادات التي اعتادت احتواءها وشراءها». يبدو أن ذلك هو ما قلب المعادلة، لتشاهد الحكومة الحاليّة الكبت المتزايد ينفجر في وجهها، جرّاء تشتّت سياسات الإصلاحات وبطئها. رغم سلميّة التظاهرات التي جابت وسط البلد على مدى شهرين، ومئات الاعتصامات ذات الطابع العمّالي، ومطالبها التي تبدأ بالاقتصاديّة، إلا أن التوق إلى مساحة حرّة، على اختلاف المطالب وتفاوتها، كان حاسماً.

الأسبوع الماضي، كانت تلك المساحة الحرّة دوّار الداخليّة. على مدى يومين، شعر المعتصمون، الذين استجاب كثير منهم لدعوات على «الفايسبوك» تحت اسم «شباب 24 آذار»، بأن يوتوبيا لم تكن لتوجد في عمّان. تحرّرت المساحة الصغيرة من الإقليميّة والطبقيّة والفئويّة بطريقة مريبة، كأنها ذابت على بُعد أمتار قليلة من مبنى محافظة العاصمة.
المزيج، الذي لا يمكن أن يلتقي إلا في دوائر حكوميّة، نجح في الانسجام، بسرعة، في محيطه الجديد، وذلك بعدما خفّ ضغط السلطات، والضغوط اليوميّة، والهيكليّة المشوّهة التي أفرزت عائلات مُسيّجة تحتكر السياسة كما التجارة. وبتفعيل المصطلح الدارج «الخصوصيّة الأردنيّة»، يمكن أن يرث مواطناً كرسيّ نيابة في مجلس الأمة، بدلاً من والده المتوفّى لخللٍ ما في هذه «الخصوصيّة». وهذا ما التقطته مجموعة شباب، بينهم يساريون وإسلاميون ومستقلون، ممن شاركوا في الحراك الذي دفع إلى استمرار مسيرات «الجمعة السلميّة» على مدى شهرين. ومن خلال 7 مطالب رئيسيّة لمسوا فيها السقوف المفترض أنها مسموحة، لكن لا يمكن الحديث عنها، اجتذب «شباب 24 آذار» خليطاً تتنوّع مطالبه بين الاحتجاج على الغلاء ومجرّد الفضول، إلى الإحساس بأن لا أحد يمثّلهم. هذه المطالب تضمّنت: «برلماناً يمثّل الشعب، حكومة وطنية منتخبة، إصلاحات دستوريّة، محاكمة الفاسدين، إصلاح النظام الضريبي، رفع القبضة الأمنية وتحقيق الوحدة الوطنيّة». قبل هذا اليوم، كانت عمّان، على مدار شهر تقريباً، تشهد حراكاً سياسيّاً قاده الشباب للمرة الأولى، متجاوزين القيادات التي هرمت بانتظار هذه اللحظة، ومترجمين حراكهم من شبه اجتماعات توعويّة في المقاهي العامة إلى ندوات علنيّة عن الملكيّة الدستوريّة والإصلاح. المدهش أن غالبيّة هذه المبادرات بدأت من «الفايسبوك»، وحتى «تويتر».
في الوقت نفسه، كان التحشيد الإعلامي والنيابي والأمني على الوتيرة نفسها، وفي الاتجاه الإقليميّ نفسه. هنا في الأردن، يمكن إعادة إنتاج مصطلح «التطبيع» بصيغته الإنكليزيّة Normalization. صائغو هذا المصطلح الجديد تعاملوا مع «البلطجة» بمفهومها الأردنيّ طبيعيّاً. فمن هجوم النائب محمّد الكوز، التي تراجع عنه لاحقاً: «اللي مش عاجبيتوا البلد جسر الملك حسين مفتوح. اللي بدو يعتصم يروح على الجسر»، في إشارة إلى الأصول الفلسطينيّة، إلى ظهور النائب يحيى السعود، أول من أمس، في مجلس النوّاب بالبدلة العسكريّة، بعدما قال قبل ذلك: «من يحب الوطن والقيادة أصبح يُتّّهم بالبلطجية، فليشهد التاريخ أني أول بلطجي»، إلى التحشيد لاحتفاليّة «نداء وطن» التي ظهرت إعلاناتها بطريقة مريبة في الشوارع والصحف، ومن دون أن يتبنّاها أحد، ليجتمع آلاف في «حدائق الحسين»، ويحشدون بعضهم في اتجاه مقرّ الاعتصام في دوار الداخليّة، ما أوصل التوتّر إلى أعلى مستوياته، وخصوصاً عندما حوصر المعتصمون من ثلاث جهات بالأحجار.
هذا الشّحن الذي لمّح إليه الأمير حسن، في ظهور إعلاميّ نادر للحديث عن الأوضاع الداخليّة أمس على قناة «رؤيا»، ولينتقد مسيرات الولاء الآتية بحافلات من الجنوب بقوله: «لماذا كل هذا العبث؟ حافلات تأتي بكبسة زر».
هذا الخطاب لم يصل إلى مستوى تفاعل رئيس الوزراء معروف البخيت مع رسالة الملك عبد الله الثاني التي وجّهها الأسبوع الماضي. فبينما كانت الرسالة تتحدّث عن «تفهّم الحراك السياسي وأصوات الشباب»، يتحدّث البخيت في ردّه عن «إيجاد 21 ألف وظيفة». الرد مخيّب، حتى إن البخيت يرفض الاعتراف بوجود فساد، «فالفساد الذي من شأنه أن ينخر في عظم المؤسّسات»، كأن الحديث عن «نخر» في مؤسسات جزر المالديف.
استمر هذا الخطاب في التصاعد ليلة فضّ الاعتصام، وجرح 120شخصاً ومقتل خيري جميل، ليتّهم البخيت على شاشة التلفزيون الأردني «الإخوان المسلمين» بأنهم غرّروا بمجموعة شباب، ويتلقون أوامرهم من سوريا ومصر.
حتى إن بعض المسؤولين ذهبوا بعيداً في التلميح إلى أن استضافة الحزب الشيوعي لشباب من ثورة 25 يناير من مصر لها دور في ما حصل. لكنّ الجميع متفقون على أن ما حصل «نقطة سوداء في جبين مسيرة الحرّيات»، بحسب وزير الداخلية.
أما كيف اختلفت الصورة، واختفى منظر رجال الأمن الذين يوزعون العصير والماء على المتظاهرين، وظهرت على «يوتيوب» مشاهد لرجال الأمن وهم يحتفلون بـ«تحرير الدوّار» مع من قدموا لإظهار «ولائهم»، لنعود إلى اجترار المصطلحات الأردنيّة من «وحدة وطنيّة»، و«كافة الأصول والمنابت»، بينما التصنيف الذي جرى في اعتصام دوار الداخليّة للمعتصمين أنهم «إخوان مسلمون» مرة، أو «شيعة»، أو «أردنيون من أصل فلسطينيّ»، كان أبشع بكثير من الاطمئنان الذي يظهر في المؤتمرات الصحافيّة الرسميّة.