ما قبل مطلع عام 2009 غير ما أصبحت عليه الحال بعد هذا التاريخ على صعيد العلاقات الأميركية ـــــ السورية. فقد أتت إدارة الرئيس باراك أوباما بنيّة واضحة للانفتاح على نظام بشار الأسد المحاصَر أميركياً منذ عام 2005. لذلك، تحفل البرقيات الدبلوماسية التي تعود إلى عامي 2009 و2010، والتي حصلت عليها «الأخبار» من موقع «ويكيليكس»، بمحاضر اللقاءات الأميركية ـــــ السورية التي احتل فيها موضوع التعاون الأمني والاستخباري في مجال مكافحة الإرهاب بين البلدين، أولوية قصوى بالنسبة إلى واشنطن،
بينما ظلّ «الفيتو» السوري قوياً على أيّ حديث أمني لا يتزامن مع تعاون سياسي ثنائي، وإلغاء للعقوبات المفروضة على سوريا. وقد سعى الرئيس بشار الأسد إلى الإعراب عن نية نظامه التعاطي الإيجابي مع الأميركيين في هذا التنسيق الأمني، لكن شرط أن يندرج ذلك في خانة التعاون السياسي المبني على اعتراف واشنطن بأهمية سوريا في القضايا الشائكة في المنطقة، وتصدّرها الجهود الاستخبارية.

لبنان مقرّاً للإرهاب

وقد ظهرت الإيجابية السورية منذ أن قابل الأسد أوّل مسؤول أميركي رفيع المستوى في مرحلة «ربيع» العلاقات الأميركية ـــــ السورية، وهو نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركي جيفري فيلتمان. وفي اللقاء الثاني الذي جمع الأسد ومندوب الكونغرس ستيفن لينش في 5 نيسان 2009، [09DAMASCUS252]، حمّل الأسد الإدارة الأميركية مسؤولية عدم مواكبة الرغبة السورية في مكافحة مرور المقاتلين الأجانب إلى العراق عبر الأراضي السورية، مشيراً إلى أن المقاتلين (الإسلاميين) الأجانب نقلوا مقرهم من سوريا إلى لبنان «حيث تسود الفوضى»، من دون أن ينسى التأكيد أن الحل الوحيد لإنهاء أزمة هؤلاء المقاتلين يكمن في إرساء استقرار سياسي في العراق. وعن التعاون الأميركي الحديث مع سوريا، تذمّر الأسد من أن هذا الانفتاح الأميركي لا يزال مقتصراً على لقاء واحد (مع فيلتمان) «ونحن بحاجة إلى المزيد». أما عن «خلايا القاعدة النائمة في سوريا»، فقد رأى الأسد أنّ الاستقرار السياسي في العراق هو العامل الأهمّ في وقف تدفّق الإرهابيين، أكثر من أي تشديد للرقابة على الحدود، «ونحن يمكننا المساعدة في هذه النقطة».
وكشف الأسد لضيفه الأميركي أن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي أبلغه أنّ المقاتلين الأجانب ينتقلون من العراق إلى شمال لبنان «لأن الفوضى هي السائدة في لبنان حالياً (في 2009)، وهي بيئة خصبة لنموّ الإرهاب». أمّا لدى إثارة السيناتور بِنجامين كاردن [09DAMASCUS179]، في اجتماع مع الأسد بتاريخ 10 آذار 2009، موضوع انتقال المقاتلين الأجانب من سوريا إلى العراق، فقد اعترف الرئيس السوري بأنه «ليس هناك جيش على الحدود، ليس لديكم جيش هناك. قوموا بواجبكم، أما أنا، فواجبي حماية شعبي لا جنودكم»، ليخلص مجدداً إلى أن الإدارات الأميركية السابقة لم ترغب في التعاون أمنياً ولا سياسياً مع سوريا حيال مسألة الحدود العراقية ـــــ السورية. وهنا يُطمئن الأسد الوفد الأميركي إلى أنّ «سوريا ليست عدوّة للولايات المتحدة، فقد أنقذتُ حياة أميركيين عام 2002 عندما أوصلت لملك البحرين معلومات عن هجوم وشيك على مواطنين أميركيين في المملكة، وهو ما ردّ عليه وزير الخارجية الأميركي في حينها، كولن باول، برسالة شكر». كلّه كلام ينتهي، كالعادة، إلى النتيجة نفسها: «لن يكون هناك تعاون أمني بين سوريا والولايات المتحدة قبل إطلاق التعاون السياسي وعلى نحو متزامن» على حد تعبير الأسد. وهنا تفرد القائمة بأعمال السفارة الأميركية في سوريا (السفيرة في لبنان حالياً) مورا كونيلّي تعليقاً لتكشف فيه عن أن الأسد قد يكون انزعج من جدول أعمال الاجتماع الذي شدد على الموقف من إيران والعراق وحزب الله وحقوق الإنسان في سوريا، على أساس أن هذا يشير إلى أن إدارة أوباما تواصل سياسات إدارة جورج بوش، ولا تبدأ مقاربة جديدة في العلاقة مع دمشق قائمة على التعاون والتنسيق السياسيين وإلغاء العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا شرطاً للعمل الأمني المشترك.
وفي السياق، تتوقّف كونيلّي، في تعليق تختتم به محضر لقاء الأسد مع وفد أميركي ترأسه السيناتور آدم سميث في دمشق [09DAMASCUS94]، عند حرص الأسد على عدم تقديم أيّ تنازل ملموس إلى المسؤولين الأميركيين الذين يلتقونه، «رغم تفاؤله الحذر إزاء إدارة أوباما، وهو مسار نتوقّع أن يدوم بعض الوقت».

مفاجأة علي مملوك

لكن تبقى البرقية الأميركية الأكثر إثارةً في سياق التعاون الأميركي ـــــ السوري في شؤون مكافحة الإرهاب، هي تلك العائدة إلى تاريخ 24 شباط 2010، ورقمها 10DAMASCUS159، المصنفة «سرية»، والتي تقدّم محضراً لاجتماع وفد أميركي برئاسة منسق شؤون مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية برتبة سفير فائق الصلاحيات دانيل بنجامين، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة السورية علي المملوك ونائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد ومسؤولين آخرين. وقد حضر مملوك الاجتماع فجأة «بطلب شخصي من الرئيس الأسد في علامة إيجابية، وإشارة إلى استعداد سوريا للتعاون مع الولايات المتحدة، وهو ما لا يحصل مع دول صديقة أخرى، حتى مع فرنسا وبريطانيا»، على حد تعبير كل من مملوك والمقداد. وأصرّ الطرف السوري على أنّ الاجتماع ليس بدايةً للتعاون الأمني، لكنّه يفتح المجال أمام احتمال تعاون مستقبلي بين الدولتين. وأشار مملوك إلى أن الحدود السورية ـــــ العراقية هي مكان تستطيع سوريا التعاون فيه مع الولايات المتحدة، لكن فقط بعد الانتخابات التشريعية العراقية في آذار 2010. وأضاف إن التنسيق الأمني بشأن الحدود السورية ـــــ العراقية «قد يوصل إلى تعاون في مناطق أخرى».

ثلاثة شروط

ووضع مملوك والمقداد 3 شروط سورية لأي تعاون أمني استخباري مع الولايات المتحدة في مكافحة الارهاب: 1ــ إعطاء القيادة لسوريا في أي حملة أو جهد إقليمي أمني أو استخباري نظراً إلى خبرتها العملية العميقة التي يبلغ عمرها 30 عاماً في اختراق الشبكات الإرهابية وتدميرها، وثروة المعلومات التي تملكها في هذا المجال. 2ــ أن يكون الملف السياسي جزءاً أساسياً من مكافحة الإرهاب، وأن تسهّل «مظلة سياسية» للعلاقات الثنائية الأميركية ـــــ السورية، التعاون بشأن مكافحة الإرهاب. 3ــ بهدف إقناع الشعب السوري بأن هذا التعاون الاستخباري مع الولايات المتحدة مفيد له، يجب حصول تقدم في القضايا المتعلقة بالعقوبات الأميركية الاقتصادية على سوريا، بما فيها إلغاء الحظر على استيراد قطع غيار الطائرات وطائرة خاصة للرئيس الأسد. وعن هذا الموضوع، طلب المقداد من الإدارة الأميركية التواصل مع شركة «لوفتهانزا تيشنيك» لإقناعها بأنّ التعامل مع طلبات دمشق بالحصول على قطع غيار للطائرات، أمر لا يحمل تبعات سلبية على الشركة. باختصار، وعلى حد تعبير المقداد، فإن الرئيس الأسد يريد التعاون في مكافحة الإرهاب: «عليكم إعطاؤنا قيادة المعركة، ولا تضعوا سوريا على لوائح العقوبات الأميركية».



استفيدوا من خدّام

نصح وزير الخارجية العراقي، هوشيار زيباري، السفير الأميركي في بغداد، زلماي خليل زاده، في برقية صادرة عن السفارة الأميركية في العراق تحت الرقم 06BAGHDAD142، بتاريخ 17 كانون الثاني 2006، باستغلال دعوة نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام (الصورة) إلى تغيير النظام السوري، لأن البيانات والتصريحات التي أدلى بها خدام عن الرئيس بشار الأسد «جديّة جداً». وتوقع زيباري أن يزوّد الرئيس بشار الأسد لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري الأدلة، «لكن ببطء شديد». وطمأن زيباري الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي إلى أن الإخوان المسلمين السوريين لن يستولوا بالضرورة على الحكم. وقال زيباري لخليل زاده «على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي استغلال دعوة خدام إلى إسقاط النظام في دمشق».

صمت حيال مغنيّة

يعلّق القائم بأعمال السفارة الأميركية في سوريا، شارلز هانتر، أهمية كبيرة، في البرقية الرقم 10DAMASCUS168 بتاريخ 25 شباط 2010، على إعراب نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، عن مفاجأته بالاتهامات الأميركية لسوريا بأنها تهرّب صواريخ لحزب الله، مع توقف الوثيقة عند رفض المقداد الإجابة عن سؤال وفد أميركي حيال علمها بنيّة حزب الله الانتقام لاغتيال القائد العسكري للحزب عماد مغنية (الصورة). ويرى الدبلوماسي الأميركي أنّ رغبة سوريا في وجود عائق أمام عمل عسكري إسرائيلي (ضد لبنان) هي ما يبرر تمريرها الصواريخ لحزب الله. وينصح الإدارة الأميركية بأن الوسيلة المثلى للحؤول دون تمرير المزيد من الصواريخ لحزب الله عبر سوريا هي إقناع دول مؤثّرة مثل تركيا والسعودية وقطر والأردن وفرنسا بالضغط على دمشق.

قلق إيراني

تنقل البرقية الرقم 10DAMASCUS100 بتاريخ 3 شباط 2010، عن دبلوماسيين عرب وأجانب في دمشق، تأكيدهم قلق أركان السفارة الإيرانية في سوريا وانزعاجهم من الانفتاح الأميركي على سوريا، وانخراط دمشق في هذا الانفتاح، وتعزيز علاقاتها مع «دول معتدلة» مثل تركيا والسعودية. وتشير البرقية إلى أن الدبلوماسيين الإيرانيين يحاولون على نحو مكثف تحذير المسؤولين السوريين من أن الانفتاح الأميركي على سوريا هدفه إبعاد إيران عن سوريا. وبحسب دبلوماسيين أردنيين، فإنّ الهدف الأساسي من زيارة وزير الخارجية الإيراني (السابق) منوشهر متكي إلى دمشق في 11 كانون الثاني 2010 كان الكلام «على نحو صريح» مع السوريين بشأن هذا القلق الإيراني، مشيرين للسفارة الأميركية إلى أن العلاقات بين دمشق وطهران تمر في أيام صعبة في هذه الفترة.