في روايته الجديدة «المضلّلون- رحلة داخل عقل إرهابي» (الفارابي) يصطحبنا دريد عودة في رحلة داخل عقل الانتحاري أحمد الذي سينال في ما بعد لقب «أبو قتادة». بعدما اختار الأدب الملحمي لغة في أولى رواياته «عشتار ــ حب البشر وأقدار الآلهة» (دار المختار ــ 2009)، و»أدونيس في محراب الحب والقيامة» (دار المختار ــ 2010)، ها هو يرافق بطل روايته الجديدة قبل وبعد تنفيذ عمليّته. يسلسل لنا شريط حياته وأفكاره، فلا يكتفي فقط بعرض الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت الى تغيير تصرفّاته وتحوّله على يد داعيته الشيخ عبد الرحمن، بل يدخل الى أعماق رأسه، إلى أفكاره التي تأرجحت بين مدّ وجزر قبل أن يستقرّ على قرار الالتحاق بـ «الجهاد ضدّ الكفار». يرافق عودة الشاب أحمد الذي ولد في حيّ فقير مختلط، وعاش طفولة تشبه طفولة الأولاد الفقراء.

إنها بداية مراهقة رومانسية، يستمتع خلالها بالنظر الى فتاة يحبّها من بعيد. تتبع الرواية ميول أحمد وأفكاره منذ أن بدأ يميل يساراً نحو الفكر الشيوعي وقراءة الفلسفة ونظريات تكوين الكون من دون أن يجد ما يرضي فضوله ويسدّ عطشه بأجوبة شافية. لم يطِل الشيخ، صاحب الفكر المتطرّف، الكلام حتى اقنعه بسهولة ومنذ اللقاء الأوّل، ودحض كلّ ما كان الشاب قد قرأه، وفي الجلسة الثانية سيكون قد اقتنع بـ «الجهاد». وجد الشيخ بين يديه شاباً طريّ العود، غير مستقرّ في تفكيره، يبحث عن حقائق وعن قناعات وعن الأمان، وهل هناك مكان يحضنه ويُسْكِنُه، أفضل من الجنّة التي يعد بها الله وشيخه؟
إلى هنا، تبدو القصّة مألوفة، لكن دريد أراد – من دون حيادية - تعذيب أحمد، فالمكان المطلوب لتنفيذ العملية، هو الحيّ الذي ترعرع وعاش فيه، والضحايا هم أهل العشرة والجيرة وأصدقاء الطفولة والصبا. تحليل فرويدي يذكرّه بكَبْته وبمعاناته في بيئة شرقية محافظة تضع حواجز بين الذكر والأنثى، تمنع الجنس، بل تمنع حتى الاختلاط بلا سبب. كأن الكاتب أراد أن يفنّد لأحمد كل أسباب تضليله وذوبانه في كلام الشيخ ووعود الآخرة. من خلال محاكمته لأحمد، يحاكم الظروف والأسباب والمجتمعات التي الذي تخلق أمثال أحمد وأمثال عبد الرحمن، شيخه التكفيري.
يعطي الوقت لكل حركة ولكل خطوة في كل مشهد من الرواية، ويرافقها بتحليلات سوسيولوجية، وسيكولوجية وفلسفية ضمن قالب أدبيّ صرف.

عرض الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى تغييره
في عيني أحمد، نرى الحيّ البسيط، حيث يتابع سكانه حياتهم اليومية المعتادة بالإيقاع المعتاد نفسه، من دون أن يدركوا أنّ أحمد هو الذي يتقدّم منهم اليوم في سيارته المفخّخة. هو شخص مختلف عن ذلك الذي عاش بينهم، يتقدم منهم واضعاً مسافة كبيرة بينه وبين «الضّالين»، بينه وبين الحياة الدنيا، فالرحلة انطلقت نحو الجنة الموعودة، وما قتل «الكفرة» الّا لتقريب المسافات بينه وبين الخالق وللصعود الى أعلى مراتب الفردوس. لا يترك الكاتب أحمد عند هذا الحد. يرافق روحه بعد العملية الانتحارية، بل يرافق أيضاً جسده وعقله، ويواجهه بنفس منطق تعاليم الشيخ وحقائقه الذي نقلها لأحمد حول الجنة والنار وما فيهما. يأخذه الى الجحيم الذي أراده للكفار الذين قتلهم، ويعيد أمام عينيه كلّ ما قرأه وتعلمّه عن العقاب الإلهي.
من جحيمه، يُذّكر أحمد بأفكار شيخه وأوصافه لعذاب «الكفار» ولنعيم «المجاهد المؤمن» الذي يقوم بهذا النوع من العمليات. إن يقتل من يسميهم بالضّالين، فإنما ليخلّص ضحاياه والعالم من خطاياهم ويقيم عدل الإله، بالإضافة الى طمعه بنيل أعلى مراتب الجنة وكسب رضى ربّه. يجول به في حياته الجديدة/ الآخرة، يجمعه بالملائكة – من يفترض أن يستقبلوه شهيداً مكرّماً- ومنهم الملاك جبريل، الذي يدخل معه في نقاش حجج وبراهين، ويصطحبه جبريل مجدداً الى حيّه وأهل حيّه ليرى ماذا ارتكبت يداه. يجعله شاهداً على الأموات الذين قتلهم وعلى الأحياء ومصيرهم بعد العملية، بخاصّة والدته. سيتفرّج أحمد على عذاباتها بعدما تركها أمّاً لإرهابي انتحاري، قتل العشرات من جيرانه وأهل حيّه.
رواية هي مسيرة الروح أو الرحلة في العالم الآخر، في الآخرة، لا تخلو من جرأة في الطرح والخيال، وقد حمّلها الكاتب ما هو منصوص ومتداول في الأحاديث والآيات السماوية، وحلّلها في أبعادها السماوية وغير السماوية. هكذا طرح أمام أحمد وأمام القارئ كل التفسيرات والتأويلات والمسبّبات لما آلت إليه حاله وما أقدمت يداه على فعله. لقد كان الكاتب حاضراً بقوة في المشاهد، كان أكثر من راوٍ.