اختارت دار النشر البريطانية «أوكتوبوس» أن تضيف كارثة التلوث النفطي، التي أصابت الشاطئين اللبناني والسوري خلال حرب تموز ٢٠٠٦، الى موسوعة بعنوان «أكبر ٥٠١ كارثة مدمرة أصابت البشرية». في مثل هذا اليوم، قبل خمس سنوات، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي معمل الجية الحراري، ما أدى إلى تسرّب 15 ألف متر مكعب من الفيول إلى البحر، أصابت ما يقارب 150 كيلومتراً من شواطئ لبنان الساحلية الرملية والصخرية، وصولاً إلى الشواطئ السورية.
الكتاب الذي صدر أواخر عام ٢٠١٠ ، أشار بوضوح الى أن إسرائيل رفضت رفضاً قاطعاً التعويض عن الضرر الذي سببته، رغم القرار الذي أصدرته الأمم المتحدة في ٢٠ كانون الأول ٢٠٠٦. فيما يتوقع أن يصدر عن الدورة السادسة والستون للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي ستعقد في تشرين الثاني المقبل، قرار جديد هو السادس من نوعه، يتضمن فقرة تطالب الحكومة الإسرائيلية «بأن تتحمل مسؤولية التعويض الفوري والكافي لحكومة لبنان والبلدان الأخرى التي تضررت بصورة مباشرة من البقعة النفطية، عن تكاليف إصلاح الضرر البيئي الناجم عن التدمير».

النظر في خيار «لجنة التعويضات»

من المعلوم أنّ الحكومة الإسرائيلية ترفض تحميلها أي مسؤولية عن دفع تعويض فوري وكاف للحكومة اللبنانية. وقد وجّه فرع «حالات ما بعد انتهاء النزاع وإدارة الكوارث» التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة للبعثة الدائمة لإسرائيل لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف، رسالة في ١٦ آب ٢٠٠٧، حول هذا الموضوع، لكن لم ترد أي إجابة من البعثة. كذلك وجّه مدير البرنامج رسالة أخرى في ٥ حزيران ٢٠٠٨ إلى الممثل الدائم لإسرائيل لدى البرنامج، أبرز فيها مجدداً الطلب الموجّه إلى إسرائيل لتتخذ إجراءً على النحو المطلوب منها، ولم يتضمن الرد الوارد من الحكومة الإسرائيلية في ١٠ أيلول ٢٠٠٨ تعهداً يلزم إسرائيل باتخاذ أي إجراء لتنفيذ القرار؛ كما لم يرد أي ردّ من الحكومة الإسرائيلية على الطلب الوارد في القرارين اللذين اتخذا في الجمعية العامة للأمم المتحدة عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٠ على التوالي.
باستطاعة لبنان الدفع قدماً باتجاه صدور تقرير من نوع جديد على ضوء «الدراسة القانونية حول كيفية تأمين التعويضات اللازمة من إسرائيل في موضوع كارثة التلوث النفطي» التي يعدّها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتكليف من وزارة البيئة.
الدراسة التي أعلن وزير البيئة السابق، محمد رحال، خلال حفل التسلم والتسليم مع الوزير ناظم الخوري أنها «باتت بيد أمينة»، تبين أنها لا تزال قيد الإعداد، إذ عمد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الى تكليف مكتب محاماة أردني مختص بوضعها، على أن تتضمن هذه الدراسة خريطة طريقة واضحة حول آلية تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، علماً بأن الأمم المتحدة طلبت في آخر تقرير لها في ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٠ من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، «النظر في خيار دراسة الدور المحتمل للجنة التعويضات في الأمم المتحدة، في تأمين التعويضات المناسبة من إسرائيل»، والتي قدّرها البنك الدولي بقرابة ٨٠٠ مليون دولار أميركي. لكن وزارة الخارجية والمغتربين لم تحرك ساكناً بهذا الشأن.
وكان مجلس الأمن قد أنشأ في عام ١٩٩١ صندوقاً لدفع تعويضات عن الخسائر والأضرار الناجمة عن غزو الكويت. ونتيجة لذلك، دفع الى الآن نحو ٢٩ مليار دولار تعويضاً عن الإيرادات التي خسرتها هذه الدولة خلال فترة الركود. وللمرة الأولى سمح صراحة بدفع تعويضات وصلت إلى ٤ مليارات دولار، عن الضرر الذي لحق بالبيئة وعن تدمير الموارد الطبيعية.
هل تتكرّر تجربة لجنة التعويضات في الحالة اللبنانية؟ للأسف، لم يبادر لبنان إلى طلب المشورة الكويتية بهذا الشأن، فيما تتضارب الاجتهادات الفقهية بشأن آلية إنشاء لجنة تعويضات خاصة بلبنان، بين قائل إن هذه اللجنة تحتاج إلى قرار يصدر عن مجلس الأمن، وبين قائل بأن هذه اللجنة يمكن أن تنشأ بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، مع الإشارة الى أن لبنان لم يدفع باتجاه مشروع قرار بهذا الشأن قبل وخلال عضويته غير الدائمة في المجلس التي تنتهي في أيلول المقبل.

الصندوق الاستئماني

قدّرت وزارة البيئة تكلفة تنظيف البقعة النفطية بمبلغ ١٥٠ مليون دولار أميركي استناداً إلى نموذج تطبيقي للتكاليف لكل طن مسرّب، فيما قدّر فريق خبراء من الأمم المتحدة التكلفة الإجمالية لأعمال التنظيف وإعادة التأهيل بما يتراوح بين ١٣٧ مليون دولار و٢٠٥ ملايين دولار.
ضمّ هذا الفريق الذي شكّل في ٢٥ آب ٢٠٠٦ وحدة البيئة المشتركة بين برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية؛ مركز الرصد والمعلومات التابع للمفوضية الأوروبية؛ الاتحاد الدولي لأصحاب ناقلات النفط لمكافحة التلوث؛ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ المعهد المركزي للبحوث البحرية العلمية والتقنية التطبيقية؛ المركز الأوقيانوغرافي في قبرص؛ ومركز التوثيق والبحوث والتجارب بشأن تلوث المياه العرضي.
أوصى فريق الخبراء باعتبار هذا الهامش حداً أقصى، محدداً القيمة الدنيا بمبلغ ٦٨ مليون دولار. وعليه، اقترح الفريق العامل أن يكون السعي إلى الحصول على تمويل مـستنداً إلى مبلغ أوّلي قدره ٦٨ مليون دولار لعام ٢٠٠٦، مقروناً بمبالغ تكميلية محتملة لعام ٢٠٠٧. وبلغ مجموع المـساعدات التي تلقّاها لبنان حتى حزيران ٢٠١١ نحو ١٠٪ من متوسط هامش الحد الأقـصى (١٥ مليون دولار عن المرحلة الأولى من التنظيف وأقل من مليون دولار عن المرحلة الثانية)، أي نحو ٣٧٪ فقط من القيمة الدنيا. ولم تقدَّم تبرعات إضافية منذ حزيران ٢٠٠٨.
اقترح القرار الأساسي، الذي صدر عن الأمم المتحدة حول البقعة النفطية عام ٢٠٠٦، إنشاء صندوق استئماني لمعالجة أضرار التسرّب النفطي في شرق البحر المتوسط، يموّل عن طريق التبرعات. لكن هذا الصندوق لم يبصر النور إلا في حزيران ٢٠١٠، بعدما اقترحت وكالات الأمم المتحدة العاملة في لبنان على الرئيس سعد الحريري، أن يستضيف هذا الصندوق الاستئماني، صندوق إنعاش لبنان الذي أنشئ عقب عدوان تموز ٢٠٠٦. ورغم موافقة اللجنة التوجيهية لصندوق إنعاش لبنان لم تودع أموال جديدة لاستكمال عملية تنظيف الشاطئ وإجراء دراسات تقويم للأثر البيئي الطويل الأمد.

فضيحة المساعدة اليونانية

في ضوء الاجتماع الدولي الذي عقدته المنظمة البحرية الدولية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في أثينا في ١٧ آب ٢٠٠٦ واستضافته الحكومة اليونانية، جرى التوصل إلى اتفاق على خطة العمل التي أعدّها فريق الخبراء العامـل المعني بلبنان. حينها خصصت الحكومة اليونانية ١,٦ مليون دولار لتنفيذ مشروع للرصد البيئي في لبنان وأودعته في حسابات برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
ورغم أن هذه المساعدة اليونانية العاجلة قد جاءت بعد ثلاثة أيام من قرار مجلس الأمن إنهاء الأعمال الحربية، إلا أنها لم تبصر النور إلا قبل أشهر! والفضيحة أنها انتهت الى أقل من النصف (702 ألف دولار أميركي).
يروي مسؤول إداري لبناني بارز، فضّل عدم الكشف عن اسمه، القصة الكاملة لهذه الهبة اليونانية. ربطت اليونان تقديم هذه المساعدة بنتائج التقويم الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة البيئي (UNEP) وأطلق عليه اسم «التقويم البيئي بعد انتهاء الحرب»، وقد ركز على خمسة مجالات: المياه السطحية والجوفية، النفايات الصلبة والخطرة، التلوث الكيميائي، التلوث البحري والساحلي، ومسائل متعلقة بالأسلحة التي استخدمت. لم توافق وزارة البيئة اللبنانية على هذا التقرير، ورأت أنه يعطي صك براءة لإسرائيل، وأرسلت كتاباً رسمياً الى الفريق الذي أعدّه في جنيف، شارحة المغالطات التي وقع فيها والخلاصة الخطيرة التي توصل إليها وهي «أن لبنان لم يتأثر جراء حرب تموز ٢٠٠٦ على المستوى البيئي بأكثر مما هو متأثر به أصلاً جراء الوضع البيئي الهش قبل اندلاع الحرب».
رأت وزارة البيئة أن اعتراف الحكومة اللبنانية بهذا التقرير يعني القبول بنسف كل التقارير التي سبقته وتلته والتي حددت الكلفة البيئية للحرب وقدرت التعويضات التي يجب على إسرائيل دفعها. حينها بادر وزير البيئة الأسبق طوني كرم الى الاجتماع بالسفير اليوناني في لبنان وطلب منه تأجيل إطلاق التمويل واشترط عدم ربطه ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
مطلع هذا العام، أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنه سوف ينفذ مشروع مراقبة الموارد البيئية بتمويل من الحكومة اليونانية البالغ 702 ألف دولار أميركي وفق بروتوكول موقّع مع وزارة البيئة. السؤال المطروح كيف استطاع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحريك المبلغ اليوناني المجمّد في حسابات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام ٢٠٠٨ ؟ وكيف نقص المبلغ ليصل إلى 702 ألف دولار؟ أين ذهب المبلغ الباقي البالغ ٩00 ألف دولار أميركي؟ وهل لا يزال في صندوق برنامج الأمم المتحدة للبيئة؟ أسئلة يفترض أن يجيب عنها وزير البيئة الجديد ناظم الخوري الذي أعلن أمس إثر لقائه السفير اليوناني بانوس كالوجيروبولوس أنه عرض التعاون في ما يتعلق بمشروع مراقبة الموارد البيئية المموّل من الحكومة اليونانية.

إدارة النفايات النفطية

جمع حتى حزيران ٢٠١١ نحو ٥٠٠ متر مكعب مـن النفايات السائلة، و3220 متراً مكعباً من النفايات الصلبة وشبه الصلبة خلال عمليات التنظيف، ووُضعت داخل حاويات في مواقع تخزين مؤقتـة، وساهمت في هذه العملية الحكومـة اليابانيـة والوكالـة الكنديـة للتنميـة الدوليـة اللتـان قـدمتا مـساهمتيهما مـن خلال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

وبناءً على طلب الحكومة اللبنانيـة، أُجريـت دراسـتان بـشأن خيارات معالجة النفايــات الناجـمـة عــن التسرب النفطــي والــتخلص منــها. وكانــت الأولى بعنــوان «تقويم واسـتعراض تنظيـف النفايـات الناجمـة عـن التسرب النفطـي، واسـتعراض الخيـارات الممكنـة للمعالجة»، نشرت في تموز ٢٠٠٧. وكانـت الثانيـة بعنـوان «دراسـة حـول إدارة النفايـات النفطيـة الناجمة عـن عمليـات تنظيـف الـسواحل اللبنانية في أعقاب التسرب النفطي في الجية»، ونُـشرت في كـانون الأول ٢٠٠٧، وموّلتـها وزارة المال والـصناعة في فرنـسا، وُنفـذت بالتنـسيق مـع مجلس الإنماء والإعمار في لبنان، وشركة فرنسية تعمل في مجـال الاستـشارات الهندسـية والبيئيـة. رغم التخمة في الدراسات، لا تزال قضية ادارة النفايات الناتجة من التسرب النفطي من أبرز القضايا العالقة حالياً، إذ يعاني لبنان من غياب كامل للبنيـة التحتيـة للمعالجـة الـسليمة بيئيـاً لهـذه النفايـات.
التقدم المحرز في هذا المجال جاء بتمويل مـن الوكالـة الكنديـة للتنميـة الدوليـة، إذ أنجزت في أواخر عام ٢٠٠٩ معالجة النفايات النفطية في مــصفاة الزهــراني، حيــث جــرت معالجــة نحـو ٣١٠ أمتار مكعبة مــن الرمــل والحــصى، بالاضافة إلى ركام ومعدات؛ كما جرت عملية تنظيف للرمول على قطعــة في الوسط التجاري جــرى فيهــا تثبيـت نحو ٢٠٠٠ متر مكعب مـن الرمـل الملوث باستخدام الجير الحي.
الى ذلك لا يزال هناك نحو ٢٥٠٠ متر مكعب من النفايات النفطية السائلة والصلبة مجمّعة في مصفاتي طرابلس والزهـراني ومحطتي الجية والـزوق لتوليـد الكهربــاء. وفي معلومات لـ«الأخبار» فإن النفايات السائلة وضعت في خزان ضخم في الزوق ويضاف اليها النفايات النفطية الناتجة من تشغيل معمل الزوق الحراري. ويتوقع أن يستنفد هذا الخزان طاقته الاستيعابية بغضون اقل من عام، ما سيطرح مجدداً قضية التخلص من هذه النفايات عبر إعادة تصديرها الى الخارج، علماً بأنه في عام ٢٠٠٨ أبـدت الحكومة النروجية اهتماماً بتوفير الدعم المطلوب لتدوير النفايات النفطية، لكن هذا الدعم لم يترجم عملياً، لكونها اختارت تمويل أعمال تنظيـف طفيفـة ونهائية في مواقـع مختـارة نفذت العام الماضي، بناءً على مسح شامل للبقعة النفطية علـى طـول الـساحل مـن صـور حـتى حـدود لبنـان الشمالية.



البيئة والحرب: الأثر الطويل الأمد

بلغت كلفة دراسات الآثار البيئية لعدوان تموز ٢٠٠٦ ما يزيد على ١.٥ مليون دولار، أبرزها دراستا برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، فيما يؤكد تقرير لجنة التحقيق المعنية بلبنان المنشأة بموجب قرار مجلس حقوق الإنسان أن الكثير من آثار هذه الحرب ستبقى خفيّة لا تقدّر، ولا سيما تلك التي تترك مخلفات بعيدة المدى على صعيد الصحة والبيئة.
أدّى القصف الإسرائيلي على لبنان الى تدمير ما يقارب 445 ألف متر مربّع من شبكات الطرقات، و92 جسراً ومعبراً، بالإضافة إلى تدمير أو إلحاق الضرر بما يقارب 130 ألف وحدة سكنية، بالإضافة إلى شبكات تأمين المياه ومياه الصرف الصحي، بالرغم من أنّ الاعتداءات طالت كل أنواع البنى التحتية.
واحد من الآثار التي يتوقّع أن تظهر على المدى الطويل هو التلوّث الناتج من إصابة محطات التحويل الكهربائي. وقد تعرض ما يقارب 199 محوّلاً للضرر، و59 محوّلاً دمّرت نهائياً، حسب الإحصاءات الرسمية. وتشير المعلومات الى احتمال أن تحتوي تلك المحولات على مادة (بي سي بي) التي تنتج مادة الديوكسين المسرطنة.
لم تتضمن التقارير التي أصدرتها الأمم المتحدة والجهات الرسمية اللبنانية أي معلومات عن أثر هذه المادة، علماً بأنها قدّرت عدد المحولات الكهربائية المتضررة من الحرب بنحو 725 محطة، وأن القديمة والخطرة تمثّل 65 منها، وأن 33 منها تحتوي تلك المادة المسرطنة. أين تقع هذه المحولات؟ ومن تأثر بها؟ ومن يجب عن الأسئلة المشروعة للمشيعين في جنازات اللبنانيين الذين توفوا بالسرطان بعد عام ٢٠٠٦؟