ثمة ما يلفت الانتباه في المشهد الثقافي العربي بعد الانتفاضات. على عكس ما كان يُفترض به الأمر، لم تُسهم الحراكات في تجديد الأفكار كما كان يعدنا الكثيرون، بل كانت النتيجة معظم الأحيان هي إعادة نشر كتب قديمة أو إعادة طرح أفكار قديمة (بحلّة جديدة أو من دونها). إذاً، لم يكن الجديد الموعود سياسياً مترافقاً مع جديد في سوق النشر، بل كان تكراراً لما سبق. لهذا الأمر أسباب كثيرة ليس أقلها الفوضى والتشوّش اللذان رافقا الانتفاضات، فضلاً عن انتشار ما يمكن أن نسمّيه «كتابة تصفية الحسابات» حيث تكون الأنظمة السلطويّة هي المذنب الوحيد في تردّي الأوضاع مع وجود مكارثيّة ثقافيّة تنسف كلّ ما قبلها، لتكرّس ما هو أسوأ بدرجات. حتى في هذه الكتابة «الجديدة» التي يمكن أن نسمّيها «نيو-سلطويّة» حافظ الكتّاب على أسوأ ما في ثقافة السّلطان، من دون أن يعمدوا إلى ابتكار شيء جديد باستثناء تغيير الطرابيش.

ينطلق الكاتب البحرينيّ محمد جابر الأنصاري في كتابه «العرب والسياسة أين الخلل؟» الصادر بطبعته الثالثة (دار «الساقي») من فكرة مفادها أنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة بقيت تعاني من «فقر دم سياسيّ» منذ التأزم المبكر للخلافة الراشدة، وصولاً إلى تعثّر مشروعات النهضة في عصرنا. لعل من المفيد بدايةً التفكير في مغزى صدور الطبعة الثالثة بعد فشل أو جمود الغالب الأعم من الحراكات السياسية العربيّة، وليس مع بداياتها. أصابت الصدمة سوق النشر كما أصابت الجميع في البداية، لذا سارع الناشرون إلى طبع ما اعتبروه «الكتب النبوئية» بروح تفاؤلية، ثم صمتوا قليلاً قبل أن يبادروا إلى نشر الكتب القديمة التي كانت تحلّل بهدوء أسباب عدم وجود حراك سياسيّ. وكتاب الأنصاري من هذا النمط: تحليل أسباب «فقر الدم» السياسي منذ ما يقارب عشرين عاماً بقي على ما هو عليه الآن، ولكن بهدف تحليل أسباب إخفاق «الدماء الجديدة» في إحياء الجسد السياسيّ العربيّ.
يشير الأنصاري متتبعاً خطى ابن خلدون إلى أنّ «طباع العرب بعدت عن سياسة المُلك» بسبب غياب وجود الدولة المستقرة الدائمة الثابتة، ويؤكّد أنّ أهم أسباب هذا البعد هو الشّقاق بين ضدّين: «المدينة المحكومة تنتج الحضارة ولا تنتج السلطة، فيما البادية الحاكمة – أعجمية كانت أو عربية – تنتج السلطة ولا تنتج الحضارة»، مشيراً إلى أنّ الحل يكمن في تأسيس «علم سياسة عربيّ» و«علم اجتماع عربي» قادر على التعاطي الواقعي مع الظروف السياسية في ضوء معطياتها المجتمعية الخاصة بها، وذلك انطلاقاً من «ثقفنة» السياسة العربيّة بدلاً من «تسييس»
الثقافة.

«ترييف المدينة العربية» كان السبب الأساسي في إخفاق المشاريع لبناء الدولة

نجد هنا أنّ الأنصاري وقع في المعضلة ذاتها التي كانت متاهة العروبيين طوال عقود برغم انتقاده الشديد لهم في الكتاب: هل هناك هويّة عربيّة فعليّة يمكن التأسيس عليها، أم أنّ علينا الانطلاق من الهويّات الوطنيّة («القُطريّة») الأضيق؟ يشير الأنصاري محقاً إلى أنّ إحدى خطايا القومية العربيّة كانت تجاهل وجود الدول القُطريّة، وإلى أنّ أول كيان سياسي عربيّ كان يحمل معالم الدولة الحقيقيّة كانت تلك الدول القُطريّة بالذات، ولكنّه في الوقت ذاته يدعونا إلى تأسيس علم اجتماع «عربيّ». كيف نصل إلى هذا الكيان الهلاميّ الغامض؟ سؤال لم يجب عنه الأنصاري برغم وجود نقاط سديدة كثيرة في الكتاب الذي يختلف عن كثير من الكتب الأخرى التي غرقت في دوّامة الماضي والحاضر واكتفت بالتوصيف الخارجيّ للأشياء بدلاً من التعمّق فيها.
وكذلك، وقع الأنصاري في فخ الربط الحتميّ بين العروبة والإسلام بخاصة حين أشار إلى أنّ سيطرة الأتراك (والفرس بدرجة أقل) على مفاصل الحكم كانت أهم أسباب تضعضع الدولة التي اعتبرها «ليبرالية حضارية»، طارحاً مثال الخليفة المأمون مقارنة بالسلطة «الأصولية» لخلافة
المتوكّل.
هنا أيضاً يتماهى الكاتب مع أخطاء خصومه، فيتبنّاها عن غير قصد. ما الفارق هنا بين النظرة العروبيّة للتاريخ الإسلاميّ وبين نظرة الأنصاريّ؟ وما الفارق بين النظرة الإسلامويّة للتاريخ السياسيّ وبين نظرة الأنصاري الذي يقرّ من جهة بأنّ الإسلام لم يفصل بين الدين والدولة، ليعود في السطر ذاته ليشدّد على أنّ الإسلام فصل بين الدين والتنافس على السلطة، فضلاً عن أنه لم يُتح توظيف الدين في الصراع السياسيّ، ليصل إلى نتيجة غريبة لم يفصّل فيها تقول إنّ «السلطة في الإسلام ليست ثيوقراطيّة وليست دينيّة بالمعنى المتواتر لهذه الكلمة، وإنما هي بشريّة مدنيّة، وإن كانت تحكم دولة ذات شرع ديني».
نعجز هنا عن التقاط التمييز بين هذه الدولة «المدنيّة» وبين الدولة الدينيّة التي تتبنّاها أحزاب الإسلام السياسيّ، إلا إن كان المقصود هو تلك «الليبراليّة الحضاريّة» التي تميّز عصر المأمون المتنوّر الذي كان «يترفّق بأهل الذمة حتى اشتكى رهبانهم من كثرة تلطّفه مع أتباعهم».
«العرب والسياسة أين الخلل؟» كتاب مهم صدر في وقته عام 2000، برغم هفوات كاتبه والغموض الذي اعترى بعض الأفكار. إذ، بالرغم من الإشارة الدقيقة التي يؤكد فيها الأنصاري أنّ «ترييف المدينة العربية» كان السبب الأساسي في إخفاق المشاريع السياسيّة لبناء الدولة، وإلى أنّ البنية التحتيّة القويّة شرط جوهريّ في بناء البنية الفوقيّة السياسيّة، إلا أنّ تفصيل ذلك لم يكن واضحاً في الكتاب، أو أنه كان مترافقاً مع تناقضات في أفكار الكاتب. يهرب الأنصاري من الإشارة الدقيقة إلى العلمانيّة ليستبدلها بالمدنية، ويلتجئ إلى «الليبراليّة الحضاريّة» ليهرب من مفهوم المواطنة الذي يساوي بين الجميع، ويحاول التوفيق بين متناقضات الدول الوطنيّة العربيّة بهدف الوصول إلى هويّة ضبابية لمفهوم أكثر ضبابيّة يتعلق بتأسيس علم سياسة عربيّ.
وكذلك، ما مغزى التشديد على الأصل اللغويّ لمفردة «دولة» من حيث كونه «سلطة مؤقتة دائلة» ومقارنتها بالمفهوم الأجنبيّ الاستاتيكيّ الثابت إن كنا جميعاً (قرّاء وكتّاب ومتابعين) ندرك الخطوط العريضة الأساسية لتصوّر الدولة المنشودة؟