القاهرة | الإنسانية صفة لم تهاجر صدر الراحل نور الشريف. الفنان الذي لم يتردّد ذات مرة في حمل أحد العاملين إلى المستشفى، عندما تعرّض لبتر إحدى أصابعه أثناء عمله بآلة المنشار الكهربائي خلال تصوير فيلم «العاشقان» (2001 ــ كتابة كوثر هيكل، وإخراج نور الشريف). وقتها، أصرّ نور على أن يحمل العامل في سيارته ويذهب به إلى المستشفى لدفع كلفة العلاج. ولم يكتف بهذا، بل منح العامل راحة من العمل إلى أن يبرأ ويشفى من التعب. وحرص على أن يُرسل إليه راتبه الذي كان يتقاضاه يومياً. هذا هو نور الإنسان الذي ما إن يدخل «لوكيشن» التصوير حتى يلتفّ الجميع حوله وهم يردّدون «نوّرت يا أستاذ».
سار الراحل في رحلة الشقاء والرزق والترحال، ولم تتخلّ عنه إنسانيته، فهو ابن «السيدة زينب» أكبر الأحياء الشعبية في القاهرة. يعشق البساطة والكلاسيكية في كل شيء، حتى الملابس سواء للرجل أو المرأة، ويفضّلها دائماً أن تكون وقورة. يحبّ لمّة العائلة ويفرح بها كالطفل الصغير، وربما كان هذا يعود إلى نشأته الصعبة. توفي والده وهو لم يُكمل عامه الأوّل، وقضى سنوات عمره الأولى في منزل عمّه في شارع قدري في «السيدة زينب». وعندما كان طفلاً كان يبحث في كل مكان عن صور فوتوغرافية لوالده ليعرف من خلالها شكله وملامحه.
لم يتغيّر نور بعدما صار شاباً ونجماً وأصبح اسمه يملأ السمع والبصر في العالم العربي. لم تدفعه المنطقة الراقية التي سكن فيها أخيراً («الشيخ زايد» في أكتوبر ــ القاهرة) لينسى عاداته وتقاليده. كلمة السرّ في حياته تتمثّل في «عواطف»، شقيقته التي تقطن في مدينة الإسكندرية. دائماً ما كان يتردّد إليها وتأتي هي لزيارته. يحكي لها عن طفولته وشوارع «السيّدة» ومقاهيها وأصدقائه الذين لا بقوا يسألون عنه.
كان الشريف يميل إلى الحديث عن الماضي مع شقيقته، حيث ذكريات الصبا والأشياء الجميلة، وتذكّره عواطف بأشياء تضحكه عن شقاوته عندما كان طفلاً. كان الراحل يرفض القسوة والعنف، وعمل على تربية ابنتيه «سارة» و«مي» بالحنان والحبّ، واتخذهما صديقتين له. كان يتناقش معهما في كل شيء، إلى جانب زوجته وحبيبته الممثلة «بوسي» التي عاد إليها أخيراً بعد فترة من الانفصال.
تجربة نور مع الحياة طويلة، اكتسب فيها معلومات وعاصر أعظم حقبة في تاريخ الإنسانية. شاهد اختراع التلفزيون وتفجّر الذرّة واستخدام الموبايل، وارتبط بصداقات مع نجيب محفوظ ويوسف شاهين ومحمود درويش وياسر عرفات. وقدّم أجيالاً في الفنّ المصري، منها إلهام شاهين وسوسن بدر والمخرج داود عبد السيد ومحمد خان ومحمد النجار، وأخيراً أمير رمسيس مخرج فيلمه الأخير «بتوقيت القاهرة» (تأليف أمير رمسيس).
يكشف أحد المقربين من الشريف لـ«الأخبار» عن الجانب الإنساني في حياته والذي لا يعرف أحد شيئاً عنه، قائلاً: «كل عام يكلّف نور أحد أصدقائه في نقابة «المهن السينمائية المصرية» بتقديم كشف يضمّ أسماء السينمائيين الذين يحتاجون إلى الأموال، خصوصاً في شهر رمضان، فيقوم بإرسال ظرف يحتوي على مبلغ من المال لهم من دون أن يعلم أحد. ويضع سنوياً مبلغاً كبيراً في صندوق المعاشات في «نقابة الممثلين» لتحسين الأحوال». ويضيف: «عندما علم ذات مرّة أن زوجة مدير إنتاج كان يعمل معه في إحدى أفلامه مريضة صمّم على أن يعالجها على نفقته الشخصية إلى أن شفيت. وظلّ يدفع راتباً شهرياً لأحد المنتجين الفنيين عندما توقف عن العمل في أيّامه الأخيرة، وعقب وفاته لم يترك زوجته وكان يرسل لها إعانة مادية».
أصدقاء نور يشهدون له بالرقيّ والإنسانية، وعلى رأسهم النجم محمود ياسين الذي يقول: «شاء القدر أن ألتقي الراحل الذي كانت شهرته تغطّي حي «السيدة زينب» بأكمله قبل دخوله «معهد السينما». اتفقنا في الرؤى وتتشكّل ثقافتنا الفنية بعلم من سبقونا. لكلينا تجربة واحدة على المستوى الفني والإنساني تحديداً. نحن أكثر اثنين احتفينا بالمواهب الجديدة، وتلاقينا مع الأجيال من النجوم في مختلف الأعمار، الأمر أوجد بيننا نوعاً من التآخي والوئام. كما خضنا معاً مجال الإنتاج في عمر واحد تقريباً، وكنّا لا ندرك شيئاً عن هذه المهنة. ولم ننضج بالشكل الذي يجعلنا ندير عجلة الإنتاج جيداً. أذكر وقتها أنّه من شدّة ارتباط فكري بفكر نور، كنت عندما أتحدّث مع منتج عن مسألة سينمائية معينة يقول لي هذا رأي نور أيضاً، وكذلك كان هو».
ويكمل ياسين موضحاً أنّ «مشواري مع الشريف طويل ولا أعرف متى بدأ تحديداً، ربما وقت كنّا نفتح بيوتنا للأجيال السينمائية الجديدة، بعدما نهلنا المعرفة من مدارس فنية حقيقية وارتبطنا بالحركة الفنية ارتباطاً واقعياً. وهذه الخطوة خلقت حالة من الصداقة المبكرة بيني وبينه». ويؤكّد ياسين أنّه على مدار تاريخه الطويل يتذكّر أنّ أكثر بيت دخله من بيوت أصدقائه هو منزل الشريف: «هناك ترابط بين أسرتينا».

رجل إنساني ومعطاء
عاشق للبساطة
والكلاسيكية

النجمة نادية لطفي تقول عنه: «كان لقائي بالراحل في أواخر الستينيات عندما كان شاباً صغيراً ورشّحه المخرج حسن الإمام للمشاركة في فيلم «قصر الشوق» رائعة نجيب محفوظ، وبطولتي إلى جانب يحيى شاهين. رغم صعوبة الشخصية التي امتازت بالعمق والبساطة، إلا أنّ نور برع فى تقديمها». وتضيف: «في دفتر ذكرياتي مع نور حكايات، منها يوم سافرت إلى الجزائر لحضور المؤتمر الـ 16 لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» بدعوة من الرئيس الراحل ياسر عرفات، والتقيت نور هناك. وأثناء المؤتمر ألقى الشريف قصائد وطنية للشاعر محمود درويش وتفاعل معه الحضور. هو من الفنانين الذين لهم فضل في الثبات والمواجهة والإصرار، وله دور في تقديم التنوير والثقافة العميقة في اختياراته لأعماله الفنية. لا أنسى مسلسلاته «هارون الرشيد» وخامس الخلفاء الراشدين «عمر بن عبد العزيز»، وفيلمه «ناجى العلي»، فهو ليس فناناً عادياً، بل محترف وفيلسوف لديه فكر خاص. ومن أعظم المواقف التي تُحسب له، موقفه في «ناجي العلي» الذي قام بإنتاجه وتعرّض يومها للهجوم. كنت قد التقيت العلي وتحدّثت إليه، لكنّني لم أستطع تخليده مثلما خلّده نور سينمائياً. هذا العمل يستحقّ الإشادة والتحية، وبيني وبين نور وأسرته صداقة إنسانية ودائماً يهاتفني للاطمئنان عنّي وكذلك كنت أنا».
الكاتب وحيد حامد يعتبره ركناً من أركان السينما المصرية، منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، ويشدد على أنّه «ممثّل كبير وقادر على التأثير في الوجدان ونفوس المشاهدين. لم يكن مجرّد ممثّل، بل صاحب موقف حقيقي، أنتج وأخرج وأخلص تماماً للمهنة»، موضحاً أنّ له «فضلاً كبيراً في تقديم وجوه جديدة فى مجال الإخراج والتمثيل».
بدورها، تصف النجمة نبيلة عبيد الراحل بـ«الفنان المهم» الذي منح حياته للسينما، ولم يبخل يوماً عليها: «نور من أبرز نجوم جيله، ويمتلك حساً وطنياً وثقافياً. هو فنان صاحب رؤى وموقف». من جهته، يفلت المخرج علي عبد الخالق إلى أنّ نور الشريف لطالما كان يحمل كاميرا ليصوّر بها كل من يجده في «لوكيشن التصوير»، إضافة إلى تصوير لأصدقائه: «يحبّ التصوير جداً لدرجة أنّه كان يدخل البلاتوه وينظر إلى أماكن وضع مصابيح الإضاءة ويطلب من العاملين بعض التعديلات عليها».