خلال السنوات العشر الماضية، فضّل رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون البحث، مرة تلو الأخرى، عن حلول وسطية بدل الذهاب في عناده عند كل استحقاق حتى النهاية؛ سواء في النزول إلى الشارع أو التصعيد الإعلامي أو فرملة مجلس الوزراء. استراتيجية الجنرال حققت نجاحات عدة، لعل أبرزها تأمين قانون انتخاب عام 2009 أفضل من سابقه، وتعزيز التمثيل الوزاري للأحزاب المسيحية، وتضاعف الأرقام المخصصة لأقضية جزين وبعبدا والمتن وكسروان وجبيل في ميزانية «الأشغال العامة»، ووصول أعمدة الإنارة وشبكات الصرف الصحي وساعات الكهرباء وأعمدة تقوية الإرسال إلى بلدات منسية منذ عام 1975، وهي إنجازات مهمة بالنسبة الى الناخبين العونيين، لكنها لم تكن تعني للمناضلين في صفوف التيار الوطني الحر الكثير.
كان هؤلاء يفضّلون رفض الجنرال مقايضة ترشيحه الرئاسي في الدوحة بقانون انتخابات أكثر عدالة، مهما كانت النتيجة. كانوا يفضلون رؤية وزراء التيار ينهون، بالقوة مثلاً، ظاهرة سهيل بوجي في مجلس الوزراء بدل التأقلم معها، وهم كانوا سيلبّون سعداء دعوة الجنرال إلى منع عبد المنعم يوسف من مزاولة هيمنته على وزارة الاتصالات بدل السعي الى استيعابه. ولا شك في أن التظاهر تأييداً لوزراء التيار في تصويتهم ضد تمديد عقد «سوكلين» كان أحبّ إلى قلوبهم من الاكتفاء بتسجيل موقف. كل الأداء السابق كان يحبط هؤلاء؛ فحماستهم للعماد عون نبعت أولاً وأخيراً من حماستهم لحلم لا يعترف بمستحيل أو بخطوط حمراء، وهم كانوا يعتقدون بأن جميع المعارك ثانوية بعد فوزهم بمعركة «تحرير لبنان» الكبيرة. وقد ازدادت الأمور سوءاً حين عجز هؤلاء عن إيجاد ما يفعلونه في ظل حصر الجنرال المعركة السياسية بالنواب والوزراء، فباتوا يتنقلون متأففين من عشاء إلى آخر يبكون على زمن النضال الغابر.
جزء أساسي من كلمة الجنرال، بعيد اجتماع تكتل التغيير والإصلاح يوم الثلاثاء الماضي، كان موجهاً الى هؤلاء. إشارته إلى نضالهم السابق وتضحياتهم وشجاعتهم تكررت أكثر من مرة، وكذلك إعلانه صراحة رهانه عليهم مجدداً. وجزء أساسي من مشهد الأربعاء الماضي رسمه هؤلاء. فالتدقيق في التظاهرة العونية يظهر نواباً ورجال أعمال لم يسبق لهم التظاهر في حياتهم، إلا أن الأهم هو النصاب شبه الكامل في التظاهرة لجيل النضال العونيّ السابق. منهم من لبى النداء وحده رغم مآخذه الكثيرة، ومنهم من اصطحب زوجته وأبناءه، ومنهم من تقصّد السير محاطاً بالعشرات بعدما كان يذهب وحده للقول إن بضع مئات كانوا يقلقون النظام اللبناني – السوريّ فما حال النظام اللبناني وحده إذا اصطحب كل من هؤلاء مئتي مواطن. أما المقارنون، من مبنى «النهار»، بين التجمع العونيّ وتظاهرة 14 آذار يخطئون العنوان، إذ عليهم مقارنته عملياً بيوم الغضب الذي نظمه تيار المستقبل للاحتجاج على تأليف الرئيس نجيب ميقاتي حكومته، أو بتظاهرة العونيين أنفسهم في 14 آذار 2004 حين أقفلوا وسط بيروت بمئتي متظاهر فقط. ورغم وجود خلفية انتخابية لحرص الوزير جبران باسيل على القول إنه متظاهر عادي ينتظر أوامر المنظمين للتحرك، فإن حركته بين المتظاهرين مثلت جزءاً لا يتجزأ من محاولة القيادة العونية رفع معنويات الروح النضالية، فيما سلمت قناة «أو تي في» هواءها، طوال فترة التظاهرة، للنائب زياد أسود لإيقاظ العنفوان العونيّ من سباته.

ما ينتظر التيار في المرحلة المقبلة أيام صعبة قد تكون حافلة بالمحطات النضالية


الواضح أن ما ينتظر التيار في المرحلة المقبلة ليس نزهات ربيعية، بل أيام صعبة قد تكون حافلة بالمحطات النضالية. ولا شك في أن تيقن الجنرال من انشداد العصب العونيّ مجدداً، وتجاوز الشباب الإحباط السابق ومآخذهم على بعضهم بعضا، سيدفعه إلى الاهتمام أكثر بالجزء الأساسي الثاني من كلمته الأخيرة، حين ركز على الملفات المطلبية ووجوب مطالبة المواطنين بحقوقهم الأساسية. ولعل مهمة الجنرال الأولى كانت سهلة، أما إقناع هؤلاء بعدم التفرج أكثر، فهو صعب جداً. فهناك سؤال محق أول عن توقيت التحرك، أو السبب الذي يجعل العونيين ينتفضون اليوم فيما كانوا يسايرون أمس. وسؤال ثان عما يدفع قوى وشخصيات وجمعيات وأفراداً مقتنعين بكلام الجنرال إلى التصديق أنه لن يدخل غداً في اتفاق سياسي جديد فيضع الملفات المطلبية على الرف أو يوافق على أنصاف الحلول. مع العلم أن الحراك ضد النظام الطائفي، كما الحراك ضد التمديد للمجلس النيابي، والتحركات المناطقية الأخيرة ضد أزمة النفايات، لم تلق التفاتة ولو بسيطة من التيار الوطني الحر. أما السؤال الثالث، فيتعلق بتحديد هدف التظاهر، لأن غالبية من لبوا نداء الجنرال أول من أمس لم يعرفوا إن كان يحتجون على الأزمات المعيشية أم على تهريب التمديد لقيادة الجيش أم على الإهمال الإنمائي كحال التيار الوطني الحر في ساحل المتن الشمالي الذي حطم الجدار الفاصل بين جل الديب وأوتوسترادها للقول إن المماطلة في تنفيذ الوعود ما عادت تطاق. وبموازاة الإجابة الهادئة عن الأسئلة لا بد من استحداث الرابية على عجل ماكينتين ضروريتين: الأولى، إعلامية تهتم بوسائل الإعلام التقليدية المهملة بالكامل من جهة، وتنظم النشطاء المشتتين على وسائل التواصل الاجتماعي من جهة أخرى. والثانية تعبوية تفتح خطوط اتصال جدية بمختلف قوى المجتمع المدني والمجالس البلدية والفعاليات المناطقية، وتوفر اللوجستيات اللازمة لنقل المتظاهرين وتوفير احتياجاتهم الأساسية.
تظاهرة الأربعاء الجميلة تناسب حزباً طالبياً لبى دعوة قائده على عجل لتوجيه تحية حارة إليه، إلا أن المطلوب أكثر بكثير دون شك.