إنه اليوم المدرسي الأول. لا شيء يُعادل فرحة الأهل. الانتقال من البيت أو الحضانة، إلى المدرسة، يعني الانتقال إلى الحياة. عدد الصور التي يلتقطها الأهل لأطفالهم تكفي للدلالة على أهمية هذا اليوم. يحتفظ الوالدان بتفاصيل هذا النهار، ليقصّوها على أطفالهم مراراً وتكراراً حين يكبرون. كيف لا وهو يوم خروجهم الرسمي إلى الحياة. مع ذلك، يسيطر الخوف على الكثيرين. كيف سيواجه الطفل حياته الجديدة؟ هل سيعتنون به كما في المنزل؟ تتكاثر الأفكار ويعجز الأهل عن صدّها. البعض يصابون بالغيرة. ماذا لو تعلّق طفلهم بعالمه الجديد ونسي أهله؟تتذكر منال ذلك اليوم جيداً. تقول: «وصلنا (هي وزوجها وابنها لؤي) إلى المدرسة. صعدنا معه إلى الطبقة الأولى، حيث عرّفتنا المعلمة إلى صفه». بعض الطلاب كانوا جالسين على مقاعد خشبية صغيرة، تليق بأعمارهم. خارج الصف ملعب صغير توزّعت فيه بعض الألعاب. تتابع: «جلسنا مع لؤي لإخباره عن ذلك المكان الجديد، لكنه ما لبث أن تركنا وخرج للعب مع الأولاد». قال: «باي ماما، باي بابا» بسهولة. كانت صدمة. نظرت منال إلى زوجها لا تدري ماذا تفعل. لم يكن وضعه أفضل بكثير. شعرا بالحزن. هذا أقلّ ما يمكن قوله. لم يرغبا إلا في أن يبكي قليلاً. أرادا الاطمئنان إلى أهميتهما عنده فقط لا غير. خرجا من المدرسة «مكسوري الخاطر» إذا صحّ التعبير. «لم يتفوّه بتلك الكلمة التي يقولها الأولاد: أريد أمي». صعدا إلى السيارة عاجزين عن الذهاب إلى البيت أو العمل. ظلا يحومان حول المدرسة. تشاجرا، كأن كليهما كان يختزن شحنة غضب أراد تفريغها. استمر هذا المشهد حتى الظهر، موعد اصطحابه من المدرسة. صعدا إلى الصف مجدداً. كانت المعلمة تلوّن وجوه الأطفال. لم يكترث لؤي لقدومهما أيضاً. كان سعيداً.
لم تكن فكرة الانفصال عن لؤي قد شغلت بال منال قبل ذلك. كان همها أن يكون ابنها مرتاحاً في يومه المدرسي الأول. لكنني «استحققتها». اجتاحتها الأفكار: «كيف أتركه مع أناس لا يعرفهم؟ هل سيعرفون كيفية التعاطي معه؟ ماذا إذا شعر بالجوع أو العطش؟». فجأة تصبح التفاصيل الصغيرة أساسية وصعبة في وقت واحد.
يخشى الأهل تهميشهم لمصلحة المدرسة والأستاذ. أينسى الطفل ماذا فعل أهله من أجله؟ سلام بكت عندما «ابتعدت» عن ابنتها يارا. أو، تحديداً، بكت لأن ابنتها لم تبكِ. كان ذلك صعباً للغاية. تكيّفت يارا بسرعة مع عالمها الجديد. حتى إنها أحبّته. خرجت سلام من المدرسة وعادت إلى البيت. لم تستطع إلا البكاء. كيف لم تتأثر يارا لفراقها؟ هل تحبني؟ شعرت بأن شيئاً ما سيتغير. «أحدهم سيشاركني في حبها». لم تكن سلام سعيدة بتعلق يارا بمعلمتها ريتا. أصابت الغيرة حواسها. لم تتحمل مشهد العناق الصباحي بين المعلمة وابنتها. حين كانت يارا ترى معلمتها في الصباح، تسارع إليها من دون توديع أمها. ببساطة، «أحدهم سيرى ابنتي أكثر مني. شعرت بأن شيئاً ثميناً يخرج من جسدي».
الأمر كان أكثر صعوبة لدى شقيقتها أليسار. فياسمين ابنتها الوحيدة. خشيت عليها من المدرسة رغم ثقتها بها. لم يكن اليوم الأول وحده كارثياً. استمر الوضع لأشهر عدة. توصل ابنتها إلى المدرسة، تسمع بكاءها، فتنزل إلى الدكان القريب من المدرسة، وتبكي. كانت تعجز عن الذهاب إلى البيت قبل حلول موعد عودة ابنتها. وجدت في التنقل من مكان إلى آخر مضيعة جيّدة للوقت، بدل الجلوس في انتظار مرور الساعات الطويلة تلك . يمكن القول إن وضع سلام وشقيقتها كان أكثر صعوبة من وضع منال؛ لأن الأخيرة كانت قد اعتادت الانفصال عن ابنها بحكم عملها. وهي كانت تطمئن إلى وجوده مع جدّته. المسألة لا تقف عند الانفصال. كأن غرائز الأمومة تتحد جميعها مرة واحدة. الخوف، القلق، الغيرة، التفكير في التفاصيل... كيف سيستيقظ في ذلك الوقت المبكر؟ ماذا عن الشتاء؟ هل سيتحمل المكوث في الباص لنحو نصف ساعة؟
لم تنجُ غادة من هواجس الأمومة تلك، رغم أنها عاملة أيضاً. وفي ذلك اليوم، نظرت إلى ابنتها ليا وقالت في نفسها: «صارت صبية، اليوم تذهب إلى المدرسة». دخلتا الصف معاً. نظام المدرسة يسمح للأهل باللعب مع أطفالهم مدة ساعتين. مدة أراحت غادة بعض الشيء، قبل أن يحين موعد مغادرتها. بدأت تنظر إليها كأن الأسئلة تتراكم في رأسها الصغير. بكت، فلم تتمالك غادة نفسها. «لم أرد أن تبكي كثيراً. خشيت أن تفكر في أنني سأتركها. كيف أشرح لها أن المدرسة لمصلحتها». صارت تقول في نفسها: «يا لهذه المعلمة القاسية»؛ لأنها لم تسمح لها بأخذها إلى المنزل. خرجت من المدرسة واشترت لها بعض الحاجيات علّها تستطيع الدخول إليها مجدداً. لكن البوّاب رفض السماح لها بالدخول خوفاً من المديرة. في اليوم التالي بكت ليا أيضاً. لكن سائق الباص كان يضع أغنية «اللي بتقصّر تنورة» ، التي تحبها ليا، فصعدت إلى الباص وهي تشعر ببعض الأمان. الأغنية لم تمنع الوداع الطويل بين ليا وغادة. فالأولى ظلّت في الفترة الأولى تلوّح بيدها مودعة حتى تختفي أمها عن ناظريها.
على العكس، كان لرزان تجربة أكثر متعة، خالية من القلق والخوف. كتبت على صفحتها على موقع «فايسبوك»: رسوم تسجيل، وجبة ساخنة، زجاجة مياه... ولدي الصغير سيذهب إلى المدرسة. وانهالت التعليقات. بدت سعيدة. لم تُصب بخوف الفراق. بل استمتعت بفكرة أن ابنها يكبر. ليل ذلك اليوم، أخذت تعدّه نفسياً. «غداً نذهب إلى المدرسة»، تصرخ بفرح وتحضنه. في الصباح، ألبسته الزيّ المدرسي، وأخذته إلى المدرسة. كان آدم مستغرباً بعض الشيء، لكنه لم يبكِ. اليوم الأول مرّ بهدوء، باستثناء بعض الأطفال الذين لم يحتملوا الموقف. عاد إلى المنزل وبدأت بسؤاله عن اليوم الأول. «ماذا تعلمت؟». لم يستفض في الإجابة. في اليوم التالي أيضاً، حافظ على هدوئه. ذلك لم يكن حال الأطفال الباقين، الذين تأكدوا ربما أن الأمر لا يقتصر على يوم واحد. يومان فقط جعلا رزان تشعر بأن ابنها بات أكثر انضباطاً من ذي قبل، ما زادها راحة وطمأنينة. تشرح المعالجة النفسية جاكلين سعد، أن الانفصال بالنسبة إلى الأم العاملة غالباً يكون وقعه أسهل عليها من وقعه على سيدة المنزل. فالأخيرة تكون قد اعتادت مرافقة طفلها طوال الوقت. تضيف: «حين يدخل الطفل إلى المدرسة، تعاني من الفراغ. لذلك، يجب عليها ممارسة الرياضة أو هوايات أخرى». ذلك لا يعني أن المرأة العاملة لن تعاني؛ إذ تُصاب الأمهات غالباً بـ«فقدان المنطق، فتنهال الإسقاطات». مثلاً، قد تتذكر الأم أن ابنة إحدى صديقاتها تعرضت للضرب من المعلمة، أو أنّ ابنها قد يتعرّض للعدوى من أمراض الرشح، إلخ.
أما في ما يتعلق بالطفل، فتقول سعد إن «الطفل الذي يبكي كثيراً يدرك أن والدته ليست مرتاحة نفسياً. وقد يخشى أن يعود إلى المنزل وتكون أمه قد غادرته». وتلفت إلى مشكلة عدم تهيئة الطفل للمدرسة مسبقاً، حتى يشعر بأنها أمر مرعب. في أوروبا مثلاً، يتعرف الطفل إلى مدرسته في وقت سابق. تقيم المدرسة حفلة يتخللها توزيع هدايا، فتجذب الطفل إلى الذهاب إليها ويصبح اليوم الأول بمثابة أمر ينتظره بشغف.
حتى بعض الآباء يبكون في ذلك اليوم. ليس الأمر محصوراً بالأمهات إذاً. العالم الجديد يُخيفهم أيضاً، ويجعلهم يفكرون بالتفاصيل. ليست عملية انفصال فقط إذاً، بل خوف على الولد من الحياة، ومن أن تتحقق مقولة جبران خليل جبران: «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة».



«مدرستي ما أحلاها... قلبي مولّع بهواها»

ينتظر بعض الأطفال قدوم المدرسة بشغف. يدركون ببراءتهم أنهم يقبلون على أمور جديدة، قد تكون جميلة. لَمَا كانت من بين هؤلاء. جلبت لها أمها حقيبة المدرسة «الباربي»، والزيّ المدرسي الزهري، وبعض ملاقط الشعر الملونة. عرضت أغراضها المدرسية على جميع أقاربها وأصدقاء والديها. عرفت أنها ستكون سعيدة. كانت تقول: «سيصبح لدي أصدقاء. وسأتمكن من كتابة اسمي». لا تزال والدتها تتذكر مدى سعادتها بالذهاب إلى المدرسة، وخصوصاً أنه كان لها دور أساسي في هذه الإيجابية، إذ نقلت إليها الصورة الجميلة عن المدرسة. تذكر أنها نجحت في إحاطة نفسها بمجموعة من الأصدقاء في يومها المدرسي الأول. وكانت الأمهات يسألنها: «أنتِ أمّ لما؟».
كان الأمر أكثر صعوبة بالنسبة إلى شقيقتها حلا. في بادئ الأمر، كانت متحمسة للذهاب إلى المدرسة كشقيقتها، لكن انقلب السحر بمجرد ذهابها إلى المدرسة، لأنها لم تكن معتادة اللعب مع الآخرين. جاد أيضاً كان متحمساً للذهاب إلى المدرسة. عرف أنه سيتمكن من اللعب مع مجموعة من الأولاد في ذلك المكان. تسأله عن المدرسة، فيتذكر ابنة خالته وحقيبتها. كان متلهفاً لأن تكون له حقيبته الخاصة، ألوانه، وأصدقاؤه الجدد الذين سيتمكن من اللعب معهم.
بدوره، شعر أمجد بالحزن لرؤية أحد الأطفال يبكي في المدرسة. طلب من والدته أن تجلس قربه. «حرام. إنه يبكي». قال لها. كان قد اعتاد فكرة الدوام خارج المنزل، بعيداً عن أبويه، في الحضانة. فكانت المدرسة بالنسبة إليه أمراً عادياً.
لم تبلغ رنا الثالثة بعد. مدرستها بعد أيام. إلا أنها ليست متحمسة للذهاب. تشعر بالخوف من ذلك المكان الجديد «المدرسة»، إذ اعتادت اللعب في بيتها، وعند بعض أقاربها. سألتها خالتها: ستذهبين إلى المدرسة؟ أجابت «لا. ما زلت صغيرة». متى إذاً؟ «حين أصير في عمر لولو (7 سنوات)». تقول خالتها إن المدرسة حاضرة في مخيلتها. حين تلعب، تؤدي دور التلميذة التي تغادر صباحاً إلى المدرسة، حاملة حقيبتها، تلعب مع أصدقائها في الصف، وتعود إلى بيتها ظهراً، لكنها عرفت أخيراً أن والدتها لن تكون معها. وبدأت تغار من أخيها الصغير الذي سيبقى مع أمها وحده، كأنهما يبعدانها ليبقيا معاً.
ياسمينة دخلت الحضانة في عمر السنتين. بكت كثيراً حين تركتها والدتها. الانفصال لم يكن سهلاً عليها. الخروج من غرفتها وترك لُعبها الصغيرة. مع بداية كل عام، تفلت دموعها في الأيام الأولى ثم تعتاد. حان وقت المدرسة هذا العام. تسأل والدتها يومياً عن الموعد. لا تريده. تعدّ نفسها مجدداً للفراق. تعرف أنه لا مفر منه. مع ذلك يبدو صعباً.
مهما كانت آراء الأطفال، سيتعلقون بالمدرسة وبعالمهم الجديد. سيشعرون بالخصوصية. بات لهم عالمهم الجميل.