الحقيبة ممتلئة لا تقلّ كلفتها عن 300 دولارامتلأت الحقيبة. كتب. أقلام. دفاتر. لم يعد ينقصها إلا «التارتين». لكن لتكتمل تلك الحقيبة، كان على الوالد أن يدفع نصف الراتب، الزهيد أصلاً: 690 ألف ليرة لبنانية دفعة واحدة. العام الماضي كانت ضريبته أخف: 450 ألفاً، وكانت القدرة على التحمل واردة. أما اليوم، فقد أضيف إلى «القدرة» 50% زيادة على الكتب و30% على الأقساط ونسب أخرى قد تسقط في أية لحظة بقدرة قادر.
50% و30% و10%. كلها «مصاري» كرجت من جيبه وستكرج من جيوب أهالي طلاب آخرين في موسمٍ، الجيوب فيه فارغة أصلاً. وقد تصبح الـ690 ألفاً، مليوناً وربما أكثر، تبعاً لعدد «طالبي العلم» في البيت الواحد.
«بورصة وماشية»، يقول الوالد؛ إذ تكفي مقارنة بسيطة بين بعض كتب العام الماضي وكتب هذا العام، الطبعات الجديدة والمنقحة منها، لاكتشاف «الألوفات» الزائدة: كتاب الرياضيات «المنقح واللبناني الطبع» مثلاً للصف الخامس الابتدائي لمدرسة خاصة مصنفة «3 نجوم» يبلغ سعره 59 ألفاً، فيما طبعته العائدة إلى العام الماضي، يبلغ سعرها 45 ألفاً، علماً بأنه «لا يكون قد تغيّر في الطبعة المنقحة إلا الغلاف وأول 5 أوراق!»، يقول أحد العاملين في دار للنشر.
14 ألفاً لغلاف وبضع أوراق، يجبر الأهالي على دفعها، بحجة «التغيير». لا خيارات أمامهم، فإما الدفع أو الدفع. وهذا ما تفعله رلى خليفة، أم لثلاثة تلامذة في صفوف الثالث والثامن والتاسع أساسي. رلى لم تشتر كتب أطفالها بعد، ولكن أخبروها أن «سعر كتب التاسع أساسي يصل إلى نحو 400 دولار أميركي»، ما يعني أنه عندما تتوافر «الميزانية» للشراء، ستضطر إلى دفع ما لا يقل عن ألف دولار «متل الشاطرة»، تعلق ساخرة.
لا شيء يختلف بين عائلات التلامذة، إلا عدد الملتحقين، وما عدا ذلك المعاناة نفسها: أسعار كالنار لا مفر منها، وخصوصاً الكتب الأجنبية المستوردة والمسعرة بالعملة الصعبة، والعالية نسبياً، مقارنة بسعر الكتاب اللبناني الطبع، أو حتى كتب المركز التربوي للبحوث والإنماء.
3 أنواع من الكتب و3 أنواع من «التسعيرات»... ولا رقابة. وهنا، يقع أهالي الطلاب فريسة الأسعار المختلفة وفريسة «الكومبينات» بين دور النشر والمكتبات والمدارس و«المدارس ـــــ المكتبات». وبما أنه لا أحد يستطيع التلاعب بكتاب «الدولة»؛ لأن له سعراً رسمياً صادراً عن وزارة التربية، وبما أن أيضاً غالبية الأهالي يبحثون عن «النجوم» في المدارس، فلا حاجة إذاً إلى كتاب دولة!
هكذا يجبرون على شراء الكتب الأجنبية أو اللبنانية الخاصة، ويضيعون بين عروض المدارس والمكتبات، ومن خلفها دور النشر. لكن، من يعرف الأسعار الحقيقية أصلاً؟
تبدأ القصة من المدرسة نفسها، عندما تبدأ بعروضها على الكتب. وإن كانت معظمها لا تجبر هؤلاء على شراء الكتب منها، إلا أنها بطريقة أو بأخرى «تستطيع استمالتهم»، تقول جوان، المدرّسة والأم لتلميذين. أولى تلك الطرق تكون مثلاً، بإعطاء لائحة الكتب مع مطلع العام الدراسي. في وقت بدل ضائع. هنا، لا يعود لدى الأهالي متسع من الوقت لشراء كتبهم.
ثمة طرق أخرى لحث الأهالي على شراء الكتب منها أو عبرها، وبسعر لا يعلم إضافاته «إلا الله». هي طرق «للمساعدة»، يقول مدير مدرسة خاصة. لكن كيف تكون المساعدة؟ يشرح: «لقد اتفقنا مع مكتبة لتوفير الكتب للتلامذة، مع مراعاة الخفوضات ما بين 5 و10%»، لافتاً إلى «أننا نفرد للكتب المستعملة حيّزاً أيضاً». ويكون ذلك من خلال «إقامة لجنة الأهل لمعرض يدعى الأهالي إليه لتبادل الكتب في ما بينهم».
بعيداً عن هذين النموذجين، تقوم بعض المدارس ببيع الكتب في حرمها «سلة متكاملة»، ممارسة بذلك دور «المدرسة ـــــ المكتبة»، يقول أمين سر نقابة المكتبات اللبنانية جوزف طعمة. والطريقة؟ يقول: «تضع المدرسة كتب كلّ مرحلة في حزم كاملة وبطريقة مثيرة، وتذيّل كل حزمة بالسعر الإجمالي». عندها، لا يجد الأهل مفرّاً من شرائها «لوجودها من دون نقص»، تقول رندة قبيسي، والدة أحد الطلاب.
لكن هذه الحزمة «المثيرة» التي تأتي بنسب ربحٍ للمدارس وبإضافات على الجيوب، قد لا تكون في معظمها مراعية للقانون؛ فبحسب طعمة، «معظم المدارس تقوم بالبيع تحت شعار الخدمة، ويحق لها هذا، لكن بشروط، هي أن تكون خاضعة لقانون التجارة، يعني أن تكون مسجلة في السجل وأن يكون سعر الكتاب ظاهراً على غلافه، وبعد كل ذلك أن تحرر فاتورة وترسلها إلى وزارة المال». لكن، لا شيء من هذا يحدث، في الظاهر على الأقل، وخصوصاً في ما يتعلق بالتأثير على المكتبات؛ فبحسب إحصاء أجرته النقابة العام الماضي عن وضع المكتبات، «تبين لدينا أن 60 مكتبة أقفلت بسبب احتكار بعض المدارس للكتب».
مكتبات تقفل، وأخرى تفرّخ في المدارس. والأسعار متروكة لـ«الكومبينات». فلنأخذ مثالاً على الكتب المستوردة: كتاب ودفتر صادران عن دار نشر أوكسفورد. سعرهما في لبنان 55 دولاراً، يقول أحد العاملين في دار للنشر. أما في سوريا فـ«سعر هذه السلسلة 17 دولاراً من الدار نفسها والمطبعة نفسها». والفارق: فارق مسافة... ورقابة بين البلدين. بعيداً عن الكتاب المستورد، للكتاب اللبناني المنشأ حكاية أخرى.
هنا، كل شيء قائم على «الكومبين»، يقول الرجل. وثمة أنواع لهذه الاتفاقات «المافياوية»، على حد تعبيره. أول تلك الأنواع «إمرار سلسلة الكتب التي تصدرها الدار». يعني «مرّر وخود ع الراس». ولوضع السلسلة أيضاً حكاية. وانطلاقاً من خبرته كعامل «مرّ عليه الزمن» في دور النشر، يعرف أن «السلاسل الجديدة، تعتمد في معظمها على السرقات من الكتب الأجنبية بالنسبة إلى الطبعة الجديدة، أما بالنسبة إلى الطبعة المنقحة، فيجري تغيير الصفحات الأولى والغلاف مع تعديل في ترتيب المحاور». بعد الإعداد، تتفق دار النشر مع المدرسة «وفقاً لأعداد الطلاب وقدرتها على التسويق للسلسلة، بعيداً عن المادة التعليمية»، فهنا، الربح «على الراس». وهنا أيضاً «كلما زاد عدد الرؤوس، تعطى الحسومات». أما المصيبة الكبرى، فهي في السعر النهائي للكتاب؛ «ففي دار النشر قد لا تكلف عملية تصنيع الكتاب 25% من سعره». هناك مصيبة أخرى، هي عندما تقرّر المدارس الابتعاد عن هذه الاتفاقات «ورفع مستوى الإنسانية لديها»، فتعطي لائحة الكتب للطلاب. لكن، ما تفعله هنا «أنها تضع اسم الكتاب من دون اسم دار النشر»، وتذيّل لائحتها بنصيحة: الكتب موجودة في مكتبة كذا... كذا.
وكل هذه قد توصل إلى النتيجة الآتية: كتاب «3 نجوم وما فوق». وعلى أساس النجوم، يتحدّد سعر الحقيبة الممتلئة، على أنها لا تقل في أحسن الأحوال عن 300 دولار أميركي، من دون إضافات بطبيعة الحال.