شقّت أزمة النفايات التي أغرقت شوارع العاصمة، «العمق السياسي والاستراتيجي» للمستقبليين، تيار المستقبل الى تيارات: بيروتي وعكاري وإقليمي (نسبة الى إقليم الخروب). تراشقَ نوابه بالاتهامات، وكادوا يتقاذفون أكياس النفايات! لكن المستقبل يبدو مقتنعاً بأن «القلّة» وحدها تولّد «النقار»، ومتى حضرت الوعود بالمال بطُل الخصام.
على هذا الأساس، تحضر عكار، كما كانت تحضر في المناسبات الانتخابية، وتُغدق عليها الوعود مجدداً بالمنّ والسلوى مقابل تحويلها مكبّاً لنفايات العاصمة وإخراج التيار من مأزقه. أما تنفيذ الوعود فأمر آخر.
في خضمّ معمعة تأجيل التسريح للضباط العسكريين وتداعياتها، كان في التيار من يبحث، بصمت وسرّية تامّة، عن حلّ يبيعه للرئيس سعد الحريري، ويتم من خلاله استيعاب ارتدادات الأزمة على التيار ونوابه من الإقليم إلى بيروت. فقد علمت «الأخبار» أن وزير الداخلية نهاد المشنوق أجرى، في الأسبوعين الماضيين، اتصالات ولقاءات مكثفة مع فعاليات عكارية كادت تصل إلى خاتمة «مرضية»، تقوم على «إنشاء عدّة مطامر في المنطقة لاستيعاب نفايات بيروت»، على أن يتمّ ذلك «بالتزامن مع تنفيذ مشاريع إنمائية في المنطقة». وبحسب مصادر «مستقبلية»، سيُعلن في الأيام المقبلة عن التوصّل إلى هذا الاتفاق «بمسعى من الحريري ومباركة من رئيس الحكومة تمّام سلام».
في تموز الماضي، وبعد لقاء جمعه بنائبي عكّار معين المرعبي وهادي حبيش للبحث في إعلان رئيس بلدية بيروت بلال حمد عن مشروع عقد لرمي النفايات في منطقة عكار، أكّد المشنوق أن «هذه المسألة لا يُمكن أن تحصل، وعلى أبناء عكار أن يعرفوا أنه لن يكون هناك أي ضرر أو فرض أمر واقع عليهم». رُغم ذلك، بقيت عكار نصب عيني المشنوق. استفاد من «الجلبة» التي خلفها قرار تأجيل التسريح للضباط العسكريين وتحرك العونيين في الشارع وارتباك الحكومة. بصمت تام «شغّل» دبلوماسيته، وتوصل إلى تسوية مع فعاليات المنطقة تقوم على «إنشاء عدّة مطامر مقابل الإنماء في المحافظة». وفي الرواية أن «وزير الداخلية أقنع بداية رؤساء عدد من اتحادات بلديات عكار (الشفت، جرد القيطع، وسط وسهل القيطع، الجومة، سهل عكار، الدريب الغربي، الدريب الأوسط، نهر الأسطوان) بالطرح».

المشنوق قاد اتصالات ولقاءات مع فعاليات عكار كادت تصل إلى خاتمة «مرضية»


احتاج هذا الإقناع إلى «الكثير من الوعود التي قطعها المشنوق، ومنها إنشاء مجلس إنماء للمنطقة، وتأمين فرص عمل لشبابها». ولأن وزير الداخلية يعلم أن الاتفاق مع رؤساء الاتحادات ليس الممر الوحيد لتنفيذ اقتراحه، وبأن «صوفته حمراء» لدى بعض نواب عكار، كانت مهمّة إقناع هؤلاء هي مهمته الثانية. ولتحقيق هذه الغاية، قرّر «استرداد دين له في رقاب مستقبليين»، منهم العقيد المتقاعد عميد حمود الذي تولّى إقناع النائب معين المرعبي، فيما «موافقة النائب خالد ضاهر في الجيب، عبر الضغط الذي سيمارسه عليه رؤساء اتحادات البلديات لاعتبارات سياسية وشعبية».
لكن لمصادر اتحادات البلديات رواية أخرى، تؤكّد فيها على «وحدة الموقف في ما بينها»، وتجزم بأن «الاتفاق لم يصل إلى خواتيمه المرجوة». وتسرد المصادر بعض تفاصيل اللقاء الذي جمع المشنوق برؤساء الاتحادات الذين عبّروا عن «استيائهم من سياسة الحريري الذي لم يوزّر أحداً من أبناء المنطقة في كل الحكومات التي ترأسها»، إضافة الى أن «نوابنا لا يُعبّرون عن رأي قاعدتهم الشعبية، بل ينفّذون أوامر الرئيس الحريري العليا». وعن فكرة المطامر، قالت المصادر إنها «تعود إلى وجود مطمر في قرية سرار العكارية منذ عام 1992، يستقبل يومياً 400 طن»، وتعود ملكية أرض المطمر التي تبلغ مساحتها 4 ملايين متر مربّع إلى شخص يدعى خلدون ياسين. وبعد إرسال فريق متخصص من البنك الدولي لإجراء دراسة على الأرض، تبّين أنه يمكنها استيعاب كمية أكبر من تلك التي تُطمر فيها». حينها «اتصل النائب هادي حبيش بفعاليات من المنطقة للاستفسار عن إمكانية دمج نفايات عكار وبيروت في المطمر نفسه». بعد ذلك، حصل لقاء مع المشنوق «وتمّ الاتفاق على توزيع مبالغ مالية على البلديات والقرى التي لا بلديات فيها. ومن ضمن بنود الاتفاق دفع 50 دولاراً مقابل كل طن نفايات، على أن يصل إلى المطمر يومياً بين 1500 و2500 طن من نفايات بيروت وضواحيها، شرط أن يتمّ دفع المبالغ سلفاً، لإقامة مشاريع إنمائية تنفّذها اتحادات البلديات، بمراقبة وزارة الداخلية». وقالت المصادر إن «بوادر هذا الاتفاق ولّدت إشكالات بين النواب العكاريين؛ فمنهم من أيّد ومنهم من عارض، فجمّد الاتفاق». وتحدثّت المصادر عن «اجتماع ثان مع وزير الداخلية تعهّد فيه بدفع 100 مليون دولار لضمان سلوك الإتفاق»، لكن «فعاليات المنطقة رفضوا دخول كيس نفايات قبل البدء بالمشاريع»، لسبب واحد أنهم «لا يفون بوعودهم». ومن بين العوائق التي تقف سدّاً في طريق التنفيذ هي عدم دعوة أي من فعاليات الطائفة العلوية، حيث إن القرى التي ستمرّ فيها الشاحنات موجودة على الطريق البحري حيث الثقل العلوي. وتعليقاً على حضور النائب خضر حبيب الاجتماع، قالت المصادر «هو لا يمون في تياره، فهل يمون على القرى العلوية التي لا يجرؤ حتى على زيارتها؟».
بين الروايتين، تبقى ثابتة واحدة، وهي أن الوجهة الوحيدة التي اختارها تيار المستقبل لرفع «النفايات» عنه هي منطقة عكّار. يُمكن المرعبي أن يخرج بتصريح «تمويهي» يرفض خلاله أن «تكون عكار مكبّاً ومطمراً للنفايات». كذلك يُمكن خالد ضاهر أن يرفع صوته ضد زيارة «نهاد صفا». لكن هذا ليس أكثر من كلام «شعبوي»، إذ إن المؤشرات على سلوك اقتراح وزير الداخلية طريق التنفيذ تبقى أكبر من هذه التصريحات. فيومان شماليان طويلان قضاهما وزير الداخلية في عكار، حضر خلالهما مهرجان القبيات ولقاءً موسعاً في منزل المرعبي في بلدة البرج، يحملان في طياتهما الكثير من المعاني، ليس أقلها «القبول بما ينوي المشنوق فعله». وتأكيد الأخير أنه طرح «في مجلس الوزراء فكرة إنشاء مجلس لعكار، ولن أتوقف عن المحاولة في كل جلسة»، يبدو جزءاً من الاتفاق الذي لم يُعلن عنه بعد.