«بدأت العقوبات بالتأثير بنحو كبير على الاقتصاد السوري... سوريا اليوم تحت ضغط اقتصادي هائل من جرّاء العقوبات الدولية الحالية... الضغوط ستزداد مع قيام بلدان المنطقة وبلدان أخرى عالمياً بفرض عقوباتها الخاصّة... النظام في طريقه إلى الخروج». توضح هذه المقتطفات من حديث أدلى به نائب وزير الخزانة الأميركية دانييل غلايزر، في ختام زيارته للأردن، مستوى تعويل الولايات المتّحدة على حبل الاقتصاد لتضييق الخناق على اقتصاد سوريا ونظامها.
زيارة المسؤول الأميركي إلى المملكة كانت جزءاً من جولة شملت أيضاً روسيا ولبنان. وفي بيروت تحديداً، حرص غلايزر على شرح موقف بلاده من مغبّة تأمين القطاع المصرفي اللبناني القنوات اللازمة لالتفاف النظام السوري على العقوبات. وفي لقاءاته مع رئيس الحكومة وحاكم المصرف المركزي وممثلّي القطاع المصرفي، شدّد على «حاجة السلطات اللبنانية إلى حماية القطاع المالي اللبناني من محاولات سورية محتملة لتجنّب العقوبات المالية المفروضة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة»، بحسب بيان للسفارة الأميركية في لبنان.
«لم يكن هناك شيء محدّد يقوله (غلايز). فهو ذكّر بالعقوبات الأميركية على سوريا وضرورة عدم خرقها»، يُعلّق الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر. وبرأيه، فإنّ «القوانين الأميركية متشدّدة، وليست مرنة، ومن الأفضل عدم خرقها».
ولكن بحسب المعلومات المتوافرة، فإنّ غلايزر طلب من الجانب اللبناني تشديد الرقابة تحديداً على نظام الحوالة الذي يُمكن أن يحصل عبره السوريون على سيولة بعملة صعبة عبر مؤسسة مالية لبنانية لكن بوساطة مؤسسة مالية أجنبية، وبالتالي لا تُتّهم المصارف اللبنانية بخرق قواعد العقوبات.
على أي حال، يُشدّد مكرم صادر على أنّه يعود لكلّ مصرف لبناني صياغة أعماله ومراقبتها «وحماية نفسه لتجنّب التورط في أي شيء يؤذيه». وهو يُشير في الوقت نفسه إلى أنّ المصارف لا تتعامل مع أنظمة وإدارات سياسيّة، بل مع مصارف أخرى في النظام العالمي، «فمصارف المراسلة التي نتعامل معها من نيويورك إلى لندن مطلوب منها العمل في إطار محدّد».
هذا الإطار هو ما تطمح واشنطن إلى ترسيخه، وهي حمّلت مبعوثها الرسائل الصارمة إلى المعنيّين وخارطة الطريق لكي يتجنّبوا مجسّاتها. وظهرت تلك الصرامة تحديداً في بيان السفارة غداة زيارة دانييل غلايزر لبيروت: «أكّد (غلايزر ) مجدداً وجهة النظر الأميركية أن من الأهمية بمكان ألّا يقوِّض عدم الاستقرار الحالي في سوريا القطاع المالي في لبنان».
لا يخفى مستوى الترهيب الذي تكتنفه هذه الرسالة، وهو هائل فعلاً. فأن يُمسّ القطاع المصرفي اللبناني، يعني مساس الاقتصاد والاستقرار برمّته. ففي نهاية أيلول الماضي، أضحى حجم المصارف اللبنانية (بقياس موجوداته الإجماليّة) 138.4 مليار دولار، أي 3.5 أضعاف الاقتصاد اللبناني، وأكثر من ضعفي الاقتصاد السوري. وبلغ حجم الودائع 113.4 مليار دولار .
ويبدو جلياً من الأرقام المتوافرة مدى تأثّر مصارف لبنان بالاضطرابات العربية إجمالاً والتغيّرات السورية تحديداً. فغداة انطلاق الأحداث في درعا السورية، وتحديداً في نيسان الماضي، نمت ودائع القطاع الخاص في المصارف اللبنانية بأعلى وتيرة على الإطلاق في العام الجاري (حتّى أيلول بالحدّ الأدنى) وهو خير دليل على أهمية القطاع بصفته ملاذاً آمناً.
وقد ذهب بعض وسائل الإعلام الغربية إلى حدّ الحديث عن مليارات الدولارات التي تُهرّب من سوريا إلى لبنان تحديداً، وعلى وجه الخصوص إلى مصارف. (أشارت مجلّة «The Economist» بعد 4 أشهر على اندلاع أحداث سوريا إلى أنّ 20 مليار دولار هربت من البلاد وتوجّه الكثير منها إلى لبنان، فيما أوردت صحيفة «Financial Times» أخيراً أنّ الأموال الهاربة راوحت بين 3 مليارات و 5 مليارات دولار). وفي المقابل، نفى حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في أكثر من مناسبة حدوث تحويلات مالية كبيرة من سوريا إلى لبنان.
أمّا في أيلول نفسه، فسجّل نمو الودائع أدنى مستوى له هذا العام بعد كانون الثاني الماضي، حين تقلّصت الودائع بواقع 1.07 مليار دولار، مع العلم بأن هذا التراجع كان نتيجة مباشرة للتوتّرات السياسية الداخلية وانفراط عقد حكومة الوحدة الوطنيّة.
وللإضافة إلى مؤشّرات الترابط اللبناني ــــ السوري عبر قناة المصارف، يُشار إلى أنّ هناك سبعة مصارف لبنانية تعمل في سوريا في مسيرة انطلقت منذ أطلق الرئيس بشار الأسد سياسة ما يُسمّى الانفتاح الاقتصادي (أو نسخة سوريا الخاصّة بـ«الرأسمالية الاجتماعيّة»).
هكذا، فإنّ أي مقاربة عقابيّة اقتصاديّاً للنظام السوري باستخدام لبنان، تكون بالدرجة الأولى عبر تضييق الخناق على المصارف. وقد تكون هذه المقاربة جزءاً من توجّه بعض البلدان العربية، بتلويح جامعتها، لفرض عقوبات اقتصادية على سوريا. ولكن لا يبدو أنّ التأثير سيكون كبيراً إذا سلّمنا بتأكيد المصارف أنّها ملتزمة بالمعايير الدولية التي تفرض عليها أسس التعامل مع المصارف الأجنبية، وهي في الواقع أسس البقاء على قيد الحياة مصرفياً.
وأن تلتزم المصارف تلك الأسس ليس حيوياً لها فقط، بل أيضاً للحكومة اللبنانية؛ فالحكومة تعتمد بالدرجة الأولى على سيولة المصارف التجارية اللبنانية لتأمين احتياجاتها التمويليّة. وقد أشارت وكالة التصنيف الائتماني «Moody›s» أخيراً إلى أنّ أي عقوبات اقتصاديّة قد تُفرض على لبنان (نتيجة ملف المحكمة الدولية بالدرجة الأولى) تؤثّر تحديداً على القطاع المصرفي الذي يعتمد على الودائع، إذ تمثل تلك الودائع 83% من الميزانية المجمّعة للمصارف. كذلك تؤثّر على التحويلات التي تمثّل 20% من الناتج المحلّي الإجمالي.
وإذ يعرب مكرم صادر عن اقتناع المجتمع المصرفي بالتزام الحكومة تمويل المحكمة «ولذا لا مخاوف لدينا على هذا الصعيد»، تبقى المخاوف من الإجراءات في إطار العقوبات على سوريا. ففي ظلّ تراجع هدوء وتيرة نموّ القطاع المصرفي اللبناني، هناك زلّات يُمكن أن تحصل تخرق قواعد الإجراءات الأميركيّة، ويُمكن أن تتكرّر تجربة «البنك اللبناني الكندي»، بحجّة مختلفة.



ما سمعه الزوّار الأميركيّون

يؤكّد وزير لبناني سابق خبير في دينامية سياسة العقوبات الاقتصادية والمالية الأميركية أنّ المصارف اللبنانية «تعمد إلى تطبيق إجراءات أكثر تشدّداً تفوق المعايير المطلوبة أميركياً؛ فتلك المصارف تتجنّب وضع نفسها في موقع خطر من جرّاء الالتفاف حول عقوبات معينة» تطال سوريا. ويُشير أيضاً إلى أنّ المصارف اللبنانية محافظة، «وقد أوضحت للزائرين الأميركيّين (تحديداً نائب وزير الخزانة دانييل غلايزر) سياستها المحافظة، وهو ما كان يحتاج إليه الأميركيّون».
أمّا في ما يتعلّق بإمكان لجوء واشنطن إلى فرض عقوبات على لبنان، بسبب المحكمة الدولية أو حتّى بسبب خرق قواعد العقوبات على سوريا، يؤكّد الوزير السابق نفسه أنّ «فرض عقوبات اقتصادية ومالية على لبنان صعب جداً، وخصوصاً إذا تحدّثنا عن عقوبات أممية». ولكن في حال فُرضت عقوبات من جانب الأميركيّين والأوروبيّين، «إذا تبنّى الكونغرس مثلاً نظرة سلبية جداً تجاه لبنان وروّج لها»، فهي يُمكن أن تصل إلى مرحلة خطيرة جداً، إذ يُمكن أن تطال التحويلات والتسهيلات الائتمانيّة وحركة التجارة الدولية. «هناك هامش كبير من العقوبات، أخطرها هو المسّ بالقطاع المصرفي الضخم والمدولر في آن. وتأثير عقوبات كهذه هو كالشلل الكلي».