بدر الديب... مؤرخ الخراب | القاهرة | يصعب تفكيك النقطة التي يشع منها هذا السحر الغامض في رواية «إجازة تفرغ» (1990)، لا سيّما مع طغيان التأملات الفلسفية، وتفاعلات بطل الرواية حسن عبد السلام، مع منحوتته التي ينجزها على شواطئ الإسكندرية. وربما يبدو ذلك الوهج مشعاً ومتألقاً، رغم خفّة الدراما في العمل، لصالح تلك التأملات، بسبب انشغال بدر الديب في التعمّق برهافة وصدق داخل عالم الفنان المنعزل، الموغل في الفنية حتى ليبدو كما لو كان شخصية من ألوان وموسيقى وحروف، أكثر من كونه إنساناً من لحم ودم.
تبدأ «إجازة تفرغ» من اللحظة التي حصل فيها بطل بدر الديب على إجازة من عمله كرسّام في إحدى الصحف، بالاتفاق مع رئيس التحرير، الذي صرف لحسن عبد السلام راتب ستة أشهر مقبلة، مانحاً إياه مساحة رحبة من الوقت ليمارس فيه فنه كنحات. يتجه عبد السلام إلى الإسكندرية، حيث يتفرغ للنحت، فينشغل بالتمثال الذي يشتغل على تشكيله، أمواج البحر، العزلة، الأفق المفتوح على الأبيض المتوسط، يتماهى معه لدرجة التوحّد، ليطغى على السرد هنا حالة من الوجد والانسجام مع الفن، فيصير هو المحور الرئيسي للعمل. يطرح الديب في عمله الفاتن «إجازة تفرغ» الفن بوصفه أصلاً لهذه الحياة، أصلاً لا ترفاً، ولا نوعاً من التقدم الذي تصل إليه المجتمعات والأفراد بعد سلسلة طويلة من التجارب والخبرات: «الفن هو صلب إنسانية البشر، هو تيتانيتهم». تتخلل ذلك استعادات الفنان لتاريخه: وفاة والده، رعاية أمه له، زواجه من قريبته سميحة، سفره لإيطاليا للدراسة، تعرفه إلى لويزا عشيقته الإيطالية، وفاة زوجته وهي حامل، ورحيل أمه بعدها بشهور: «لويزا هي التي ما زالت وحدها تضرب طرقات تورينو، تدخل حوانيتها كأنها جدي صغير أو غزال حر، وبيني وبينها سنوات وزمن ووطأة، إنها ماض لا يسترجع إلا بالذكرى. وسميحة وأمي صفية، طفولتي وتعليمي وعملي وحياتي قبل اكتمال خطيئتي، كل منهما اختارت وقررت أن تموت (..) لقد بلغت سميحة خفاءها وهي تلد، ومضت وابنتها معها (...) وسارت أمي في طريق المرض بالإرادة تذوي مع اليوم الذي يمر..».

يلقى البطل حتفه في يوم رحيل جمال عبد الناصر
يصب حسن عبد السلام غضبه على دوائر المثقفين، وما يمكن أن نسميهم بـ «النخبة»، ويضع لهم وصفاً، ينطبق عليهم حتى لحظتنا الراهنة الحية. يصف سماسرة الثقافة وتجّار الضمير وبائعي مقالات الرأي والقصائد وحرّاس التراث من أولئك المتمترسين في مواقع السلطة، بحيث يحكمون قبضتهم على مفاصل المؤسسة الثقافية، وبالتبعية للكثير من الأمور التي تعني وتخص الفن والثقافة: «منذ أممت الثورة الثقافة وصنعت المجلس الأعلى وأجهزة الوزارة في الثقافة والإعلام، وهذه الأصناف من الناس تتكاثر وتقوى حراشيف التماسيح على ظهورهم. إنهم يتحركون في مستنقع آسن مخضوضر فيه ظلال ودسامة الركود، لا يجهد كل منهم إلا لكي يتخذ ركناً يمارس فيه شيئاً من السلطة».
تحضر الإسكندرية في العمل كلوحة، كمدينة من أطياف «تنساب فيها الألوان على الأرض، كأنها عروق في جواهر، فهي تمتد وتتعمق وتنعكس وتتشتت وتمتزج، حية ونابضة». اختار حسن عبد السلام منطقة الملاحات لتكون مخبأه بعد أن فر من القاهرة وأوساطها الثقافية الخانقة. ولأنّ بطل بدر الديب فنان تشكيلي في الأساس يعمل في الصحافة، فقد جاءت التوصيفات البصرية في الرواية كما لو كانت لوحة من حروف. ثمّن الديب دور العين، ضخ قدراً وافراً من «المرئي» عبر الجمل القصيرة والمفردات المنتقاة بحرص «كان قد ترك الشارع المستقيم ودار قليلاً وراء الميدان الذي انتهى إليه، ووجده في أول حارة صغيرة متفرعة من الميدان، إنه قريب جداً وواضح، لكنه كان متخفياً طوال الطريق الذي كان يقطعه، لقد وصل إليه دون أن يدري تماماً ودون بصر، أما الآن فها هو كله في بصره، وها هو يراه كما يرى الأشياء كلها متشكلة متجمعة في وحدات: الأناسي والكراسي والحيطان والأدوات وحركة البشر وسط كل هذا».
في نهاية الرواية، وبشكل مفاجئ وعبثي، يلقى البطل حسن عبد السلام حتفه من دون أي تصاعد درامي يؤهل القارئ لتلك النهاية. السبب في هذا الموت المتجاهَل هو أنه مات في نفس يوم رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، واضعاً نهاية لحياة الفنان المنعزل، ونهاية لهذا العمل الناعم والعميق.