لا شك في أنّ ما حصل أول من أمس في وسط بيروت من تظاهرة سلمية حاشدة انتهت بشكل عنفي مع لجوء القوى الأمنية إلى الرصاص الحيّ والمطاطي ومختلف الوسائل القمعية، أعاد الأذهان أربع سنوات إلى الوراء، يوم اندلاع الانتفاضات الشعبية في بعض البلدان العربية وإبراز دور الإعلام في هذا الحراك الشعبي. في لبنان، البلد الذي يتغنى بالديمقراطية والحرية لا يستطيع ــ رغم سطوة طاقمه السياسي وفساده ـــ أن يجرّب ما فعلته الأنظمة العربية القمعية بشعوبها في لحظة انتفاضتها عليها وتكبّدها لعشرات الشهداء والجرحى. لا يستطيع هذا الطاقم اللبناني أن يحجب صورة تنقلها الشاشات المحلية لما يحدث في ساحتي «الشهداء» و»رياض الصلح». لا يستطيع هذا الطاقم الذي انتفضت بوجهه المجموعات الشبابية الخارجة عن الإطار الحزبي والتطييف المذهبي، أن يمنعها من استخدام السلاح الأمضى اليوم: الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لنقل وفضح ما يتعرّض له المتظاهرون من قمع وعنف متعمد وصل الى حدّ اصطياد المتظاهرين بالرصاص الحيّ والمطاطي واستخدام خراطيم المياه والقنابل المسيّلة للدموع لردعهم.
إذاً وسائل الإعلام التقليدية المتمثلة في كاميرات الشاشات المحلية، والى جانبها منصات التواصل الاجتماعي شكلت معاً «انتفاضة تلفزيونية» وكانت سلاحاً فعّالاً لفضح وتعرية ممارسات قوى الأمن القمعية والعنفية بحق المتظاهرين.

في تغطية معظم هذه الشاشات (mtv ،lbci، «الجديد»، otv) التي دعمت الحراك اللبناني الشعبي أول من أمس، شاهدنا هذه التوأمة بين الشباب المتظاهر وهذه الوسائل الإعلامية التي أعلنت انحيازها له، في الكلام أقله بما أنّ هذه المنابر ذاتها فتحت هواءها للسياسيين المدان بعضهم في ملف النفايات ومسؤول عما آلت إليه الأوضاع في البلاد. هذه الازدواجية كانت محط اعتراض على منصات السوشال ميديا. دعا الناشطون على هذه الشبكات هذه القنوات إلى الكفّ عن فتح الهواء لهم ونشر تنصلهم من هذه الأزمة. وكان لافتاً هنا دخول قناة otv على هذا الخطّ واستغلالها غضب الشارع وتصادم «التيار الوطني الحرّ» مع الحكومة لتصنع حدثها الخاص عبر استضافة الوجوه البرتقالية هاتفياً. هذه الأخيرة أطلقت مواقف ضد الحكومة، متناسية أنّها تشكّل جزءاً أساسياً منها. نجمتا تظاهرة وسط بيروت كانتا قناتا «الجديد» وlbci. منذ اللحظة الأولى لهذا الحراك، واكبت المحطتان التظاهرة بالصورة والنقل الحيّ الى حدّ تعرضّ طاقميهما الى الاعتداء ونيل النصيب من خراطيم المياه والتدافع والبطش الأمني. وهنا، كان بارزاً أداء مراسلة «المؤسسة اللبنانية للإرسال» ندى أندراوس التي واصلت رسالتها على الهواء رغم تنشقها القنابل الدخانية وإمطارها بمياه الخراطيم. بقيت أندراوس على الهواء رغم الصعوبة اللوجستية في النقل الحيّ وحراجة الوضع الأمني. وقفت خلف القوى الأمنية وأمام الكاميرا تشير بالاصبع لما يحصل. وبعدها راحت تلاحق المتظاهرين الذين أخرجهم الأمن بقوة السلاح والتهديد من ساحة رياض الصلح. عادت معهم عندما فضح البطش الأمني وتراجعت القوى لصالح هؤلاء الشباب. كانت لحظات تلفزيونية حيّة سجلتها الكاميرات، والى جانبها «الأسلحة الافتراضية» من هواتف خليوية وثقت من زوايا عدة هذه الاعتداءات والهرج والمرج الحاصل ونشرتها على وسائل التواصل الاجتماعي لتشكل بدورها الى جانب كاميرات الشاشات التقليدية محاضر ضبط موثقة بحق مستخدمي القمع والبطش، ويصار بعدها الى وقف هذا العنف نهائياً بعد موجات الاحتجاج وإعلاء الصوت تلفزيونياً وافتراضياً.

وسائل التواصل الاجتماعي وكاميرات الشاشات التقليدية شكلت محاضر ضبط موثقة بحق مستخدمي القمع والبطش
هذا الأمر طبعاً عزّز أكثر فأكثر سطوة القنوات المحلية وأهميتها في هذه اللحظات المصيرية. لذلك، لجأ المعنيون مباشرة في ملف الأمن والمدانون بالأصل في أعمال العنف الحاصلة الى استخدام هذه المنصات. رأينا وزير الداخلية نهاد المشنوق الموجود خارج البلاد، يختار شاشة «الجديد» ليبرر ما حصل ويتنصّل مما حدث. كما شاهدنا مداخلة النائب وليد جنبلاط على lbci التي أعلن من خلالها سحب دعمه للتظاهرة الشبابية بعدما ادعى أنها خرجت عن سياقها من خلال دعوتها الى اسقاط الحكومة.
إذاً مشهد تلفزيوني بامتياز ولد أول من أمس مع هذه التوأمة بين الإعلام التقليدي والحديث في وجه السلطة القامعة والقاتلة لأبنائها. كان ربيعاً لبنانياً مصغراً في انتظار أن تصنع «الزبالة» الثورة كما أوردت مقدمة «الجديد» أول من أمس، مع الانتباه طبعاً الى أجندات القنوات التي استغل بعضها الحراك دعماً لخطه السياسي الضيق، ومارس بعضها الآخر ازدواجية في دعم التظاهرة وإبراز الوجوه السياسية المدانة على منبره. هكذا، شاهدنا تراشقاً للمواقف الهجومية بين الأطراف السياسية كما حصل مع تراشق جنبلاط/ المشنوق، وأضحت هذه الشاشات صندوق بريد لكليهما لتمرير الرسائل القاسية الى بعضهما. وفي المحصلة أيضاً، ومع صناعة هذه اللحظات التلفزيونية الحيّة، كانت مراسلة «الجديد» نانسي السبع ــ وعلى غير عادة قواعد برنامج «الحدث» الصباحي أمس ـــ تتلو مقدمة سياسية ساخطة على أهل السلطة (10 دقائق) باللغة العامية تشير بكل صراحة الى المتورطين في ملف النفايات وباقي الأمور المعيشية، وتبرز التحرك الشبابي وتسميه بحركة «22 آب» التي جمعت طرفي الصراع في لبنان 8 و14 آذار. إنّها أيضاً خطوة لافتة.



اعتداء على الإعلام

خلال تظاهرة «طلعت ريحكتم» أول من أمس، لم تفرق القوى الأمنية في بطشها بين الشباب المتظاهر والإعلام الناقل للحدث. لم تسلم بعض الطواقم الإعلامية من الاعتداء وتكون كبش محرقة كما اعتدنا في لبنان، بخاصة تلك التي كانت تتوسط الجموع المحتشدة والقوى الأمنية. لعلّ «الجديد» وlbci اللتين كانتا على خطوط التماس إن صح التعبير تعرضت مراسلتاهما ندى أندراوس عزيز ونوال بري (الصورة) الى الاعتداء المباشر الذي وثق على الهواء لحظة إدلائهما بالرسائل الحية. تعرضت بري لضربة كرسي من قبل القوى الأمنية وبقيت مستمرة في رسالتها على الهواء، فيما أمطرت هذه القوى عزيز بالمياه وبالغازات المسيلة للدموع. كما تعرض المصورون المرافقون لكلتي القناتين لهذا البطش الوحشي الذي أراد أن يخفي الصورة الدموية التي يسطرها في الميدان. ولعل الصورة الواضحة في هذا المجال وضع يد أحد العناصر الأمنية على الكاميرا لمحاولة إطفائها أو أقله إخفاء لحظة الاعتداء.




اصطفافات جديدة

التعاطي الإعلامي أول مع أمس مع تظاهرة «طلعت ريحتكم»، فرز انقساماً جديداً لم تعهده الساحة اللبنانية من قبل. فقد ولدت اصطفافات جديدة للقنوات المحلية كـ»المستقبل» و»المنار» جراء تغطية التظاهرة الشبابية «طلعت ريحتكم»، فيما راحت بقية القنوات تدعم الحراك (باستثناء nbn). انسحب هذا الانقسام، أيضاً فضائياً، بين قنوات ساوت بين المتظاهرين وقوى الأمن وصوّرتهما كأنهما قوتان متكافئتان، كما فعلت bbc، ولم تقل صراحة إنّ ما حصل هو اعتداء سافر بل اكتفت بإيراد العبارة الآتية: «اشتبك متظاهرون في بيروت، بسبب أزمة تراكم القمامة في الشوارع، مع رجال الشرطة، مما أدى إلى اصابة 15 شخصاً على الاقل». أما «العربية»، فبرز انحيازها الواضح الى جانب السلطة اللبنانية، واتهمت المتظاهرين «بالخروج عن طابع التظاهرة السلمي»، وبررت بالتالي أعمال العنف التي حصلت بحقهم. أما «الميادين»، فركّزت على جرحى الحراك واستخدام القوى الأمنية لشتى الوسائل العنفية بحقهم، ونقلت تصاريح الأحزاب والقوى السياسية التي تدين هذه الأفعال .