اشتعلت ساحة رياض الصلح. استحالت ميدان معركة، طرفاها متظاهرون وقوى أمنية. نار وسط البلد لم تلبث أن امتدت لتطال كل لبنان. فانتهى الحراك العلماني بمجموعة تحركات طائفية. رُوِّج أن مهاجمي السرايا من الطائفة الشيعية، وأنّهم يستهدفون كرسي السنّة لا الرئيس تمام سلام الذي يجلس عليه. وعليه، تداعى عدد من أهالي خلدة وسعدنايل وشتورا والمنية وغيرها من المناطق لقطع الطرق بنداء «يا غيرة أهل السنة»، دعماً للرئيس سلام.
انتفض «أهل السنة» في وجه «زعران الشيعة» الذين يعتدون على «رئاسة الحكومة». ليس هذا فحسب، ضُخّت على وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتسآب شائعات عن مواكب لحزب الله وسرايا المقاومة تتوجه إلى وسط البلد وإلى طرابلس وإلى الطرق المقطوعة لفتحها بالقوة. هكذا أراد الطائفيون تحويل حراك مدني خلال ساعات قليلة إلى فتنة متنقلة. فما الذي جرى؟
على مدى يومين، سقط عشرات الجرحى من المتظاهرين والقوى الأمنية. وتحوّلت مناوشات اليوم الأول إلى حربٍ حقيقية في اليوم الثاني. من بدأ الاعتداء؟ سؤالٌ جرى تقاذفه لرفع المسؤولية. كل طرفٍ وجّه الاتهام للآخر. «الإفراط عنفياً في قمع التظاهرة مرفوض تحت أي ظرفٍ كان». بهذه العبارة والاستنكار المحق ارتفعت أصوات الساسة والمسؤولين ونشطاء المجتمع المدني. وهكذا انتهى يوم التظاهرة الأول لمصلحة المتظاهرين الذين جرى الاعتداء عليهم لقمعهم وطردهم، أو أقلّه هكذا ظُهِّر الأمر، ولا سيما أن معظم الشعب اللبناني يُؤيد مطالب المتظاهرين المحقة التي رفعها بضعة آلاف ممن تجمهروا في ساحة رياض الصلح. غير أن القوى الأمنية قدّمت رواية أخرى. تقول المصادر الأمنية إن التظاهرة كانت سلمية في البدء ثم تحوّلت إلى شغب، كاشفة أن «الشرارة كانت بعد محاولة المتظاهرين اقتحام ساحة مجلس النواب من نقطة أمنية ــ عسكرية بالقرب من فندق لو غراي». وتروي المصادر أن بعض المتظاهرين تسلّحوا بمفرقعات نارية وحجارة رموها على القوى الأمنية بعد محاولتهم إزالة الأسلاك الشائكة. في تلك الأثناء، أُصيب ضابط برتبة ملازم أول إصابة مباشرة في وجهه، نُقل على أثرها إلى المستشفى. هنا جُنّ جنون رجال الأمن الذين هاجموا المتظاهرين لدفعهم إلى التراجع.

الرواية تقول إن متظاهرين بادروا إلى الاعتداء على الأمن

ليس هذا فحسب، إذ بحسب الرواية الأمنية، بالتزامن مع الاشتباك بين الأمن والمتظاهرين، هاجم عدد من الشبّان أحد محال الحلويات في وسط البلد وبدأوا بتحطيمه، ما استوجب تدخّل الجيش ليسقط أحد المعتدين الشاب ع. س. جريحاً. هكذا بررت المصادر الأمنية استخدام الرصاص الحي. حصيلة اليوم الأول بلغت قرابة الستين جريحاً، نصفهم من عناصر القوى الأمنية. وبناءً عليه، تعتبر القوى الأمنية أن هناك «عناصر مشبوهة استغلّت التدافع بين الأمن والمتظاهرين لغاياتها». غير أن أداء القوى الأمنية لجهة أسلوب قمع التظاهرة والإفراط في العُنف لم يأخذ بالاعتبار ألف طريقة وطريقة من أساليب مكافحة الشغب التي تُمكِّن الأمن من وقف تقدم المتظاهرين من دون إيذائهم أو حتى تعرض المدافعين أنفسهم للأذى. لم يُستخدم منها سوى الرصاص المطاطي وخراطيم المياه والرصاص الحي أحياناً كثيرة. لم يسلم من ذلك الصحافيون والمصوّرون الذين كان لهم حصّة أيضاً.
بدأ اليوم التالي بنفوس مشحونة لدى المعسكرين (قوى الأمن والمتظاهرين). أبدى منظمو التظاهرة حرصهم على عدم تحويل التحرّك إلى شغب. غير أن محاولاتهم لم تُفلح. فمنذ الساعات الأولى، كان هناك شبّان يحاولون إزالة الأسلاك الشائكة. وذلك خطٌّ أحمر بالنسبة إلى القوى الأمنية التي كانت الأوامر لديها واضحة: «الدخول إلى باحة مجلس النواب والسرايا محرّم». استمرت مناوشات خفيفة لم تتطوّر إلا مع ساعات الغروب الأولى. قبلها استخدمت القوى الأمنية خراطيم المياه لدفع المتظاهرين إلى التراجع. وفي تلك الأثناء، تسلل متظاهران ليحرقا دراجة نارية للقوى الأمنية. ترافق ذلك مع اشتباك بالحجارة وزجاجات المولوتوف وأصابع ديناميت كان يحملها بعض المشاركين في التظاهر. حصلت حربٌ بكل معنى الكلمة لم يُر منها سوى الحجارة والزجاج المتطاير، وشبّانٌ يختبئون خلف الجدران. عندئذ انسحب المنظمون ليُعلنوا براءتهم مما يجري. يُعلّق مصدر أمني: «جماعة «طلعت ريحتكم» طُلعوا منها، بس بعد شو؟». تنقل المصادر أن مجموعات من الشبّان التحقت بركب الحراك لتبدأ بالتحطيم ورشق القوى الأمنية بالحجارة. حصيلة اليوم الثاني من الإصابات كان مضاعفة.
مشهدٌ آخر. «وينها نوال... قولوا لتحسين خياط إنو أهل البسطة والخندق نزلوا»، أبلغ أحد المتظاهرين الملثّمين مصوّراً صحفياً. تؤكد المصادر الأمنية أن القرار اتُّخذ بطرد المتظاهرين بعد تدهور الوضع الأمني، زاعمة أن «عدداً من الحشاشين هني اللي عالأرض». هنا، ردّت المصادر الأمنية على سؤال: هل هناك طابورٌ خامس، بقيادة معينة أعطت أوامر التحرّك والانتشار؟ «ليس بالضرورة، شجّعت مشاهد اليوم الأول شبّاناً من مختلف المناطق على المشاركة... فجاء بينهم زعران خصيصاً للاشتباك مع الأمن... إفراطٌ في الحماسة ربما كان السبب وراء ذلك». في المحصّلة، «المندسّون هم السبب»!