بين عامي 1992 و2017، أنجز مجلس الإنماء والإعمار مشاريع بقيمة 10.3 مليار دولار، وهناك مشاريع لا تزال قيد التنفيذ بقيمة 4.5 مليار دولار، أي أن مجمل العقود التي نفّذها وينفّذها المجلس منذ ربع قرن لم تتجاوز قيمتها 14.8 مليار دولار. وتمثّل هذه القيمة معظم استثمارات الدولة، أو قيمة الأصول العامّة الجديدة التي خلقتها. وهي قيمة منخفضة جدّاً بكل المقاييس، وتفسّر أحد أهمّ الأسباب وراء تراجع الخدمات العامّة وتدهور التجهيزات المختلفة وضعف قطاعات الإنتاج والمعرفة.لقد أنفقت الحكومة بين عامي 1993 و2017 أكثر من 216 مليار دولار، وراكمت ديوناً بقيمة 85 مليار دولار حتّى الآن، إلا أنها لم تُخصّص سوى 6.8% من إنفاقها العامّ لتجهيز البنية التحتية وصيانتها وبناء المرافق اللازمة لتوفير الخدمة العامّة، في حين خصّصت ثلث إنفاقها لخدمة الدين العامّ (77 مليار دولار حتّى نهاية عام 2017).
يتولّى مجلس الإنماء والإعمار معظم المشاريع التي تنفّذها الدولة، مباشرة أو بالشراكة مع القطاع الخاصّ، في مجالات: البنية التحتية الأساسية (الكهرباء، الهاتف، النقل...إلخ) والخدمات الأساسية (المياه، الصرف الصحّي، النفايات... إلخ) ومرافق التعليم والصحّة والمباني الحكومية، وأيضاً يتولّى بعض المشاريع في ترتيب الأراضي وحماية البيئة والريّ الزراعي، وكذلك بعض البرامج الموجّهة إلى فئات اجتماعية وقطاعات محدّدة... وبالتالي، تعكس عقود المجلس الإنفاق الاستثماري بدرجة كبيرة، كما تعكس توجّهات الحكومة وسياساتها الاجتماعية والاقتصادية، وتمثّل أداة قياس مناسبة لدرجة فشل أو نجاح هذه التوجّهات والسياسات.
لعبت السياسات التقشّفية دوراً حاسماً في تقليص الإنفاق الاستثماري للدولة، ولكن اللافت في تقرير مجلس الإنماء والإعمار عن تقدّم العمل لعام 2017 أن التمويل كان متاحاً دائماً لزيادة هذا النوع من الإنفاق، ولكن السياسات لم تكن تحبّذ ذلك، فقد بلغ التمويل الخارجي المُحقّق لبرنامج إعادة الإعمار منذ عام 1992 نحو 12.5 مليار دولار، منها 3.6 مليار دولار هبات (29%) و8.9 مليار دولار قروض ميسّرة (71%). تشمل هذه القيمة اتفاقيات القروض التي وافقت عليها الحكومة وصادق عليها مجلس النواب واتفاقيّات الهِبات التي وُضعت قيد التنفيذ بموجب مراسيم حكومية. لا يبيّن تقرير المجلس قيمة اتفاقيات القروض والهبات غير المنفّذة، إلّا أنه يبيّن أن 5.7 مليار دولار فقط من التمويل الخارجي تمّ تخصيصها للمشاريع التي يتولّى تنفيذها المجلس، أي ثلث قيمة مجمل المشاريع. وهذا يعني أن 9.1 مليار دولار فقط من قيمة مشاريع الإعمار جرى تمويلها بواسطة الضرائب التي سدّدها المقيمون في لبنان، والتي بلغ مجموعها أكثر من 144 مليار دولار بين عامي 1992 و2017.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

استاثرت الطرقات بربع الإنفاق الاستثماري (23.8%) في هذه الفترة، وبلغت قيمة المشاريع عليها نحو 3.5 مليار دولار، منها 1.1 مليار دولار مموّلة بقروض خارجية. ولم يجرِ إنجاز أي مشروع لإقامة نظام نقل عامّ مشترك يخفّض الخسائر الناجمة عن الإفراط في استخدام السيّارات الخاصّة واستهلاك الوقود وازدحام السير والحوادث والأضرار الجسيمة على الصحّة والبيئة. ويجري الآن في إطار مشاريع «باريس 4» عرض تنفيذ المزيد من مشاريع الطرقات المكلفة، تماشياً مع السياسات التي تمليها مصالح المقاولين وملّاك الأراضي وتجّار السيّارات والوقود.
وحلّت عقود النفايات الصلبة في المرتبة الثانية، وبلغت قيمتها 3.1 مليار دولار (21%)، نفّذت منها عقود بأكثر من 2.5 مليار دولار ولا تزال هناك عقود قيد التنفيذ بقيمة 590 مليون دولار. وتعود معظم هذه العقود لمشاريع المطامر وردم البحر، فضلاً عن عقود الشراكة مع «سوكلين» سابقاً، وشركات أخرى حالياً. ويجري الآن طرح مشاريع جديدة تكلّف مئات ملايين الدولارات لإنشاء محارق بالشراكة مع القطاع الخاصّ أيضاً. وتدلّ التجربة إلى فشل هذه العقود فشلاً ذريعاً، كون السياسات المُحفّزة للاستهلاك لا تشجّع على التخفيف من النفايات بل بالعكس تزيدها، كما أنها لا تشجّع على الفرز وإعادة التدوير.
ونالت عقود مشاريع الكهرباء على الحصّة الثالثة الأكبر من مجمل الإنفاق الاستثماري، إذ بلغت قيمتها مليار و480 مليون دولار، وعلى الرغم من عدم كفاية هذه الاستثمارات لتأمين الكهرباء والتخلّص من مولّدات الأحياء، إلّا أن مجلس الإنماء والإعمار لا ينفّذ حالياً أي مشروع لزيادة القدرات الإنتاجية لدى مؤسّسة كهرباء لبنان، وهذه المهمّة باتت متروكة للقطاع الخاصّ.
لقد أُنفقت مبالغ لا بأس بها على مشاريع مياه الشرب والري (1.9 مليار دولار) ومرافق التعليم (1.3 مليار دولار) والصرف الصحّي (1.1 مليار دولار) ومبالغ أقلّ بكثير على مرافق الصحّة (371 مليون دولار) وترتيب الأراضي والبيئة (137 مليون دولار).
ماذا كانت النتيجة؟ تراكمت أزمات الكهرباء والمياه والصرف الصحّي وتراجعت نوعية الطرقات والاختناقات المرورية وتدهورت البيئة والأراضي الزراعية وقطاعات الإنتاج وانخفضت جودة التعليم والخدمات الصحية العامّة. لماذا؟ وفق تقرير مجلس الإنماء والإعمار لا يكمن السبب في الاستثمار العامّ بل في ضآلته وسوء توزيعه وتجييره في خدمة مصالح خاصّة، كما يكمن في السياسات العامّة والفساد والمحاصصة.