يواجه الاقتصاد اللبناني ضغوطاً انكماشية متزايدة، تحول دون تحقيق أيّ نموّ في الناتج المحلّي حتى هذا الوقت من السنة الجارية، كما أعلن حاكم المصرف المركزي بنفسه في 25 حزيران/ يونيو الماضي. أمّا مصادر هذه الضغوط، فتتركّز أوّلاً في السياسات المالية المتّجهة نحو التقشّف في الإنفاق الاستثماري، وثانياً في السياسات النقدية التي لجأ إليها مصرف لبنان في الفترة الأخيرة واعتمدت على لجم السيولة والكتلة النقدية في الأسواق. وكنتيجة مباشرة لهذه السياسات النقدية تحديداً، يبدو أن إحجام المصارف عن منح التسليفات سيشكّل أحد العوامل التي تعزّز هذا الانكماش، نظراً إلى دور هذه التسليفات في خلق الكتلة النقدية وتمويل التجارة واستهلاك الأسر.تشكّل التسليفات إحدى أبرز آليّات خلق الكتلة النقدية، وذلك من خلال إعادة ضخّ الأموال المتأتية من الودائع في الأسواق من جديد. من هنا، يشكّل أي تقليص في قدرة المصارف على التسليف لجماً للكتلة النقدية في الأسواق، وهو ما يرتبط بشكل كبير بحجم الاستهلاك وبالتالي النموّ الاقتصادي. في أزمتنا الاقتصادية الراهنة، ترافق الركود في الأسواق مع مسار انحداري لحجم الكتلة النقدية المعروضة، وهو ما ارتبط بشكل كبير بإحجام المصارف عن التسليف.


وفي كل الحالات، ترتبط كل هذه التطوّرات بالسياسات النقدية المتّبعة في سياق التعامل مع هذه الأزمة. فهندسات مصرف لبنان التي هدفت بداية إلى تأمين حاجته من العملة الصعبة، سرعان ما انتقلت في مرحلة لاحقة إلى امتصاص السيولة بالعملة المحلّية أيضاً، للسيطرة على الكتلة النقدية بالليرة والحدّ من قدرتها على تشكيل طلب على الدولار. ساهمت هذه الإجراءات في تقليص قدرة المصارف على تسليف أموال المودعين، وهو ما ظهرت نتائجه في تقلّص حجم تسليفات المصارف إلى القطاع الخاص المحلّي بشكل تدريجي.
بين كانون الأوّل/ ديسمبر 2017 وأيار/ مايو الماضي، تقلّص حجم هذه التسليفات من 53.45 مليار دولار إلى 49.26 مليار دولار، أي بنسبة 8%. مع العلم أن موجودات القطاع المصرفي ارتفعت خلال هذه الفترة تحديداً من 219.86 مليار دولار، إلى 253.63 مليار دولار (أي بقيمة 33.77 مليار دولار).
في السياق نفسه، وبينما انخفضت التسليفات بقيمة 4.19 مليار دولار خلال هذه الفترة، سارت الكتلة النقدية في مسار انحداري مواز، وانخفضت بقيمة 5.75 مليار دولار بين تشرين الأول/ أكتوبر 2017 وأيار/ مايو الماضي. فيما المصارف كانت تتوسّع في توظيف أموالها في الهندسات الماليّة التي يجريها مصرف لبنان، سواء بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأميركي.
طوال الفترة الماضية، تفادت المصارف اللبنانية إعلان إحجامها عن التسليف بشكل واضح وصريح، تفادياً لأي هلع بين المودعين. وقد اعتمدت في ذلك على خطوات غير مباشرة، تمثّلت بفرض شروط قاسية وتعجيزيّة للحصول على القروض التجارية، وضع سقوف منخفضة جدّاً للقروض الشخصية، بالإضافة إلى رفع المعايير الائتمانية بشكل غير مبرّر على أنواع أخرى من القروض.
توضح الأرقام علاقة الإحجام عن التسليف بتقليص الكتلة النقدية، وبالتالي، تقليص الاستهلاك والطلب في السوق المحلّية. عملياً، تشكّل الهندسات المالية الأداة الأساسية لحبس السيولة التي كانت تذهب سابقاً إلى التسليفات، إلّا أن هذه التحوّلات تؤدّي إلى المزيد من الانكماش الاقتصادي، في الوقت نفسه. بمعنى آخر، فيما تحاول السياسات والمعالجات النقدية المتبعة راهناً، شراء الوقت وحماية النموذج الاقتصادي والمستفيدين منه من الانهيار، تساهم أيضاً في مضاعفة النتائج السلبية على الشرائح الاجتماعية المتضرّرة من الركود الاقتصادي. أمّا المعضلة الأكبر، فتكمن في عدم سعي هذه المعالجات - مع كل نتائجها الموجعة على الاقتصاد المحلّي - إلى التعاطي مع جذور الأزمة الفعلية، وهو ما يحمّلها أكلافاً كبيرة من دون حلول فعلية على المدى البعيد.