قبل نهاية الشهر المقبل، سيكون على الحكومة اللبنانية تسديد سندات دَيْن بالدولار (يوروبوندز) بقيمة مليار و500 مليون دولار، بالإضافة إلى الفوائد المُستحقّة بقيمة 916 مليون دولار، أي ما مجموعه ملياران و416 مليون دولار. وفي العام المقبل، بين آذار/ مارس وحزيران/ يونيو تحديداً، سيكون عليها تسديد مليارين و500 مليون دولار، بالإضافة إلى الفوائد بقيمة مليار و 882 مليون دولار، أي ما مجموعه 4 مليارات و382 مليون دولار. ما يعني أن الحكومة، في ظلّ نقص حادّ للدولار والمزاحمة عليه وارتفاع سعره إزاء الليرة والصعوبات المُتزايدة أمام التمويل من الخارج، ستعمد في الأشهر السبعة المقبلة إلى جمع 6 مليارات و798 مليون دولار لتسديدها للدَّائنين أو إعادة تدويرها في الدَّيْن العام وموجودات مصرف لبنان، وبالتالي زيادة الدَّيْن الخارجي إلى مستويات أكثر خطورة.في هذا السياق، يجري التحضير للإعلان عن إقفال الإصدار الجديد لسندات اليوروبوندز. ووفق المعلومات المتداولة، ستصدر وزارة المال سندات دَيْن بالدولار بقيمة ملياري دولار تقريباً يكتتب بها مصرف لبنان حصرياً، وهذه السندات ستكون بدل السندات والفوائد التي استحقّت في أيار/ مايو وحزيران/ يونيو الماضيين وسدَّدها مصرف لبنان نيابة عن الحكومة. وفي الوقت نفسه، سيقوم مصرف لبنان بتحرير نحو مليار دولار من توظيفات المصارف لديه لإعادة توظيفها في سندات دَيْن الحكومة. وسيتمّ رفع الفوائد إلى أكثر من 12%، في محاولة لجذب الدَّائنين من الخارج والحصول على دولارات إضافية.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ستؤدّي هذه العملية إلى زيادة الدَّيْن الخارجي على الحكومة بما لا يقلّ عن 3 مليارات دولار، وستزيد مدفوعات الفائدة السنوية في الموازنة على الديون بالعملات الأجنبية بنحو 350 مليون دولار.
من جهته، لن يدفع مصرف لبنان أي دولار في العملية المذكورة، ولكنه سيمتلك سندات دَيْن على الدولة اللبنانية بقيمة ملياري دولار على الأقل، وسيعمد إلى بيعها لدعم موجوداته بالعملات الأجنبية، وإنّما سيبيعها بسعر أدنى بكثير من سعرها الأساس لتعظيم عائد الدَّائنين منها على حساب الخزينة العامّة. أمّا المليار دولار التي سيحرّرها لكي تكتتب بها المصارف التجارية فستعود إليه، أو بالأحرى لن تخرج من عنده إطلاقاً، ولكن الفائدة التي كان يتكبّدها مصرف لبنان على هذه التوظيفات ستنتقل إلى الموازنة وتدخل في حساب عجز الموازنة العامّة، أي العجز الذي تسعى الحكومة إلى تخفيضه لتتمكّن من مواصلة تسديد الفوائد على الدَّيْن، عبر برنامجها للتقشّف وتخفيض الأجور ومعاشات التقاعد وزيادة الضرائب على الاستهلاك والخصخصة وبيع الأصول العامّة.
فضلاً عن كلفتها المتزايدة على حساب النفقات الضرورية الأخرى، شكّلت استحقاقات سندات الدَّيْن الدولارية وفوائدها مصدر استنزاف مهمّ للعملات الأجنبية منذ سنوات عدّة. ووفق مشروع قانون الموازنة العامّة لعام 2020، سترتفع مدفوعات الفائدة على الدَّيْن الحكومي الخارجي إلى 2.4 مليار دولار، بالإضافة إلى أكثر من 5 مليارات دولار سيسدِّدها مصرف لبنان مباشرة كفوائد على ديونه بالدولار. ما يعني أن مدفوعات الفائدة على الدَّيْن العام الخارجي (الحكومة والبنك المركزي) هي محرّك أساس للطلب على الدولار، وهي إحدى الآليات الرئيسة للاستحواذ عليه من قبل قلّة من الدَّائنين على حساب الكثرة اللاهثة وراءَه لتمويل تجارتها أو استثماراتها في الخارج أو الهروب بودائعها أو التحوّط من مخاطر سعر الصرف عبر تحويل قسم من المدّخرات من الليرة إلى الدولار وحفظ بعضها خارج النظام المصرفي.
لم تخفِ الحكومة الترتيب الذي تعتمده على سلّم الأولويات، فهي تكرّر علناً الضمانات التي تمنحها للدائنين بتسديد سنداتهم والفوائد في مواعيدها من دون أي تأخير وقبل أي التزام آخر، ومن دون أي إعادة هيكلة أو «قصّ شعر» (haircuts) من أي نوع. وعلى الرغم من أنها التزمت أخيراً بتأمين الدولارات الكافية لاستيراد القمح والدواء والنفط، إلّا أن الأولوية لا تزال لتسديد سندات الدَّيْن والفوائد لا لشراء السلع الحيوية، تعبيراً عن قوّة المصالح المالية وهيمنتها على السلطة واقتصادها السياسي.
يعجز كثيرون حالياً عن الحصول على الدولار، ويتمّ تعريضهم لمخاطر جمّة في اقتصاد مدولر يعتمد كثيراً على الاستيراد وسعر صرف ثابت، إلّا أن الدولة لم تتخلّف يوماً عن تسديد أصل سندات الدَّيْن وفوائدها، على الرغم من أن آخر إصدار لسندات دَيْن جديدة بالعملات الأجنبية جرى في آذار/ مارس 2017، ومن يومها لم تستطع الحكومة اللبنانية إصدار أي سندات دَيْن جديدة. ولكن في أيار/ مايو 2018 نفّذت عمليّة استبدال سندات خزينة بالليرة يحملها مصرف لبنان بسندات خزينة بالدولار (يوروبوندز) بقيمة 5.5 مليارات دولار، باع مصرف لبنان معظمها بأقل من سعرها للحصول على الدولارات المتبقّية لدى المصارف ومن الخارج، وتولّى تسديد استحقاقات سندات الدَّيْن والفوائد نيابة عن الحكومة وتنفيذاً لضماناتها بعدم التوقّف عن الدفع للدَّائنين، مهما كانت الظروف ومهما بلغت الأكلاف والخسائر على المجتمع والاقتصاد.
تبلغ قيمة سندات اليوروبوندز القائمة حالياً (قبل الإصدار الجديد المنتظر) نحو 29 ملياراً و814 مليون دولار، بالإضافة إلى الفوائد بقيمة 16 ملياراً و377 مليون دولار، أي ما مجموعه 46 ملياراً و192 مليون دولار، وهذه المبالغ ستستحقّ تباعاً وستزداد باطّراد، ما يطرح تساؤلات جدّية عن القدرة على مواصلة دفع هذه الديون الخارجية، ولا سيّما أن قيمتها سترتفع في حال تخفيض سعر صرف الليرة، على عكس الديون بالليرة، في حين أن العمليّات التي يقوم بها مصرف لبنان للحصول على الدولارات والتحكّم بالسيولة جعلت ثلث هذه السندات في أيدي غير المقيمين، بعدما كان يجري التطمين من أن معظم الدَّيْن في لبنان يحمله المقيمون، الذين يمكن الاتفاق معهم في حال لم يكن هناك مفرّ من إعادة هيكلة الدَّيْن