بعد خفض تصنيف ديون لبنان من وكالة «فيتش» إلى (CC)، ثم خفض تصنيف ثلاثة مصارف من وكالة «ستاندر أند بورز» إلى «التعثّر الانتقائي»، تركّز النقاش في أسباب هذا الخفض وتداعياته على رساميل المصارف. «فيتش» برّرت هذه الخطوة بالتطوّر الأخير الوارد في التعميم الصادر عن مصرف لبنان أخيراً، والذي يفرض على المصارف تسديد الفوائد على الودائع بالدولار مناصفة بين العملة المحلية والدولار. اعتبرت «فيتش» أن هذا الأمر ناتج عن ارتفاع حدّة الضغوط المالية ويعطي مؤشّراً سلبياً على قدرة وقابلية القطاع العام على تسديد التزاماته. أما «ستاندر أند بورز»، فقد رأت ان قيام مصرف لبنان بهذه الخطوة، إلى جانب مؤشرات أخرى، يحدّ من قدرة الزبائن في الحصول على أموالهم.استنتاجات الوكالتين تثير الكثير من الشكوك حول المسؤولية الائتمانية للمصارف عن سلوكها السيّئ في توظيف أموال الزبائن، على مدى العقود الثلاثة الماضية، بشكل سيئ ومتهوّر. فرغم أن هذه المسؤولية تفرض على المصارف التأكّد من إدارة هذه الأموال بشكل سليم وعدم التفريط بها بأي شكل من الأشكال، إلا أن المصارف العاملة في لبنان أصرّت على توظيفها في الدين السيادي. وهذا الدين هو على نوعين: الدين الحكومي، أي استثمارات المصارف في سندات الخزينة بالليرة وسندات الخزينة بالعملات الأجنبية «يوروبوندز»، وديون مصرف لبنان التي تكون على شكل ودائع من المصارف لديه بالليرة أو الدولار المحلية والعملات الأجنبية أو شراء شهادات إيداع صادرة عنه بالعملتين أيضاً.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

واصلت المصارف سوء ائتمانها تجاه الزبائن واستمرّت في توظيف الأموال في الدين السيادي، وهي اليوم تدّعي أن سبب تبخّر توظيفاتها في هذا الدين ناتج عن السرقة والفساد اللذين يُسأل عنهما السياسيون، فهل يعقل أن المصارف تعلم بأن هناك فساداً وسرقة في الخزينة العامة ومصرف لبنان لكنها واصلت تمويلهما بأموال الزبائن؟ أليس هذا الأمر يقع ضمن ما يُسمى مسؤوليتها الائتمانية التي كانت الذريعة القذرة التي استخدمها عدد من رؤساء مجالس إدارة المصارف وكبار مديريها التنفيذيين سواء الذين استقالوا من المصارف التي عملوا فيها أم لا يزالون يمارسون عملهم، لتبرير الفوائد المرتفعة والدفاع عن «مظلومية» المصارف؟ ألم يحوّلوا هذه المسؤولية إلى حائط مبكى في مواجهة ما اعتبروه «شيطنة» المصارف؟
الأزمة المالية والنقدية الحالية لا تترك مجالاً للشكّ في أن المصارف «شياطين». الدليل موجود لدى وكالات التصنيف، وقد أصبح علنياً: انكشافهم على مخاطر الدين السيادي. الإحصاءات التي أجريت بالاستناد إلى بيانات «بنك داتا» لغاية نهاية 2018، تشير إلى أن المصارف تستثمر في الدين السيادي ما يفوق 6 مرات رساميلها البالغة 20 مليار دولار (122 مليار دولار)، مقابل تسليفات للقطاع الخاص تبلغ 2.8 مرتين (56 مليار دولار) رساميلها، علماً بأن بعضاً من هذه التسليفات تحمل أيضاً مخاطر ضمنية على الدين السيادي بسبب كونها مرتبطة بشركات تورّد للقطاع العام. وهذه النسب تتفاوت بين مصرف وآخر، ولا تدخل ضمنها التطورات المالية الحاصلة في الـ 11 شهراً من السنة الجارية، أي أنها قد تكون أسوأ بسبب انخراط المصارف في مطلع عام 2019 بالمزيد من الهندسات المالية التي ولّدت لديها جشعاً إضافياً لاستثمار الأموال في الدين السيادي والحصول على عوائد هائلة كان يدفعها مصرف لبنان تحديداً.
عملياً، هذا التراكم في توظيف الأموال في الدين السيادي لم يكن وليد السنوات الأخيرة، بل هو ناجم عن سياسات نقدية متّبعة منذ عام 1997 بعد تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وعن شراكة نشأت بعد نهاية الحرب الأهلية بين القوى السياسية ومصرف لبنان والمصارف لتطبيق هذه السياسات. الشراكة بينهم كانت تقتضي الاستمرار في تمويل الدين السيادي سواء أكان سندات خزينة صادرة عن وزارة المال أم إيداعات وشهادات إيداع صادرة عن مصرف لبنان.
اليوم بات يتوجّب على المصارف أن تأخذ مؤونات مقابل الدين السيادي تطبيقاً للمعيار المحاسبي IFRS9 وتصنّفها ديوناً مشكوكاً في تحصيلها في المرحلة الثانية، وهذا وحده يتطلّب أكثر من 30 مليار دولار، أي أنه يمحو كامل الرساميل ويبقى على المصارف أن تغطّي أكثر من 10 مليارات دولار إضافية.
هذه التطوّرات ليست نتائج عابرة، بل هي توجب محاكمة المصارف بجرم سوء الائتمان.
يذكر أن واحدة من الألاعيب التي قام بها مصرف لبنان لحماية المصارف، أنه سمح لها بأن تكون أوزان مخاطر توظيفاتها لديه صفراً في المئة على الليرة و50% على الودائع لديه، بدلاً من 150% كما هي على توظيفاتها في سندات اليوروبوندز الصادرة عن وزارة المال.