كل هذه الأرقام وظيفتها تفسير مستوى الاعتماد على المغتربين، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ يبدو أن هناك شبكة واسعة من آلاف المغتربين الذين لا يكتفون بتحويل الأموال إلى أسرهم، ولا بإيداع أموالهم في لبنان (سابقاً) بل يمثّلون العقل الحقيقي الذي خسره لبنان بكل ما فيه من إمكانات خارجية.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره
بهذا المعنى، يذهب الوزير السابق شربل نحاس أبعد في تفسير ظاهرة الهجرة. ففي دراسة نفذها للبنك الدولي، تظهر العلاقة الواضحة بين الاستثمار في التعليم والنماذج الاقتصادية المولّدة للهجرة. ففي البلدان التي تتخصص بإنتاج المهاجرين تتخصص أيضاً في التعليم. الهجرة والتعليم يصبحان عناصر من حلقة تتغذّى على نفسها. عملياً هذا ما نفعله في لبنان منذ سنوات. ننتج مهاجرين لديهم قدرات تعليمية مرتفعة يرسلون تحويلاتهم إلى أسرهم لتمكين المنظومة من الاستهلاك برفاهية هائلة. هذا النموذج انكسر اليوم، بينما لا نزال نصرّ على التعامل مع المهاجرين على أنهم أسرى خدمة رفاهية الشرائح الاجتماعية العليا في هذا النموذج. هذه السمة الأساسية لاقتصاد لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية: «خسارة لكلفة تنشئة المهاجرين الشباب، ثم خسارة التحويلات التي أرسلوها عبر الاستهلاك» بحسب نحاس. خسارة تقدّر بنصف العمر، وبنحو 240 مليار دولار على مدى 30 سنة.
إذاً، لماذا يهاجر الشباب اللبناني؟ لم لا! هذا قرار متّخذ اليوم بين عشرات الشبان الذين يستطيعون للهجرة سبيلاً أو سيحاولون على الأقل. قرار كهذا يُتخذ من شريحة مماثلة كل بضع سنوات. الموجة الأولى من الهجرة امتدت بين 1991 و2000، أي بعد نهاية الحرب الأهلية مباشرة وشملت نحو 350 ألف مهاجر بحسب دراسة أعدّها الخبير الاقتصادي علي فاعور. والموجة الثانية امتدت بين 2001 و2006 وشملت نحو 330 ألف مهاجر، من بينهم 120 ألفاً في 2006 وحدها. أما اليوم، فالأزمة المالية أطلقت رغبة واسعة في الهجرة قد تكون مدمّرة للمجتمع اللبناني واقتصاده. بحسب تقديرات تقرير صادر عن الإسكوا بعنوان: «الاتجاهات السائدة أثناء النزاعات وتداعياتها»، فإن العوامل الديموغرافية في البلدان العربية هي أحد الاتجاهات العملاقة والمخاطر المستقبلية. لبنان من بين كل البلدان هو الذي يشهد تحولاً سلبياً صادماً: عدد السكان سينخفض مقابل تباطؤ الزيادة السكانية في كل الدول العربية الأخرى. الهجرة هي أحد العوامل المساعدة في هذا التحوّل الديموغرافي.
بحسب نحاس، فإن الهجرة هي ردّ فعل على تباطؤ النموّ الاقتصادي. كما أن المسح العنقودي الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي في لبنان يشير إلى أن 65٫9% من المهاجرين سافروا بحثاً عن عمل، وأن 77٫4% هاجروا قبل سنّ الـ 35، بينما 44.4% من المهاجرين يحملون شهادات جامعية، و48٫4% منهم لم يكن يعمل قبل الهجرة.
هذه مؤشرات لصناعة يمتهنها النموذج بحق أبنائه يومياً. صناعة ستنتهي بأن تتضخم الشريحة السكانية الهرمة والعاطلة من العمل بسبب العجز. رغم كل ذلك، يسعى رعاة النموذج إلى السيطرة على أراضي الدولة تعويضاً للخسائر التي تكبّدتها المصارف بسبب فشلها الائتماني في إدارة أموال المغتربين. يريدون من المغتربين المزيد من الدولارات لمراكمة رأس المال وتسريبه إلى الخارج، ويريدون المزيد من الريوع المحلية لتحقيق الأرباح السهلة مقابل استمرار هجرة الأدمغة. هذه هي التسوية المقيتة المطروحة اليوم بقيادة إيمانويل ماكرون والأربعين زعيماً. إنها تسوية ترقيع النموذج والاستمرار بصناعة المهاجرين.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا