منذ بداية الأزمة في لبنان، تضخّم حجم الكتلة النقدية في التداول بشكل هائل. ففي نهاية تشرين الأول من عام 2019 كان حجم هذه الكتلة يبلغ 6000 مليار ليرة، أي ما يوازي 3% من مجمل المعروض النقدي المعرّف عنه في الكتلة M3، والذي يشمل النقد في التداول والحسابات الجارية والحسابات المجمّدة وحسابات الدولار. أما في نهاية شهر كانون الأول من عام 2020 فقد ازداد حجم هذه الكتلة النقدية المتداولة إلى نحو 31000 مليار ليرة، أي ما يوازي 15% من مجمل المعروض النقدي. هذا الارتفاع في نسبة النقد المتداول من المعروض النقدي، يشير إلى تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد الـ«كاش».
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بين تشرين الأول 2019 وكانون الأول 2020، أي خلال 15 شهراً مضت، تضخّمت الكتلة النقدية المتداولة بنسبة 215%، وهو ارتفاع لم يسبق أن شهده لبنان إلا في النصف الثاني من الثمانينيات ربطاً بانهيار العملة وتدهورها المتسارع في تلك الفترة. أما في الانهيار الحالي، فإن انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار بلغ 83% (ارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة بلغ 500%).
هنا يجب الربط بين الارتفاع في هذين المؤشرين، أي تضخم الكتلة النقدية وتدهور قيمة الليرة. عادةً يكون النقاش الأكاديمي الاقتصادي بين المدرسة الكينزية والمدرسة الكلاسيكية مثلاً، مرتبطاً بما إذا كانت هناك علاقة على المدى القصير بين العرض النقدي ومعدلات التضخم. تركّز الحجج والتحليلات في هذه النقاشات على سلوك الشركات المنتجة في حالة ارتفاع العرض النقدي، في اتجاه رفع أسعار بضائعها أو زيادة إنتاجها، لكن الأمر في لبنان مختلف كلياً في ظل غياب هائل في الإنتاج وعدد محدود من الشركات المنتجة التي ستحدّد مسارات عملها في اتجاه زيادة الإنتاج أو رفع الأسعار. لذا، فإن النتيجة تصبح ثباتاً في الأسعار المرتبطة مباشرة بالاستيراد المسعّر بالدولار. إذاً، المتغيّر الأساسي الذي يؤثّّر في تضخّم الأسعار هو سعر صرف الليرة مقابل الدولار. سعر صرف الدولار يحدّد التوازن بين كتلة الدولارات المعروضة في السوق وبين الطلب عليها. في بداية الأزمة أخذت هذه الكتلة بالانكماش، وبالتالي باتت استجابة السياسات النقدية شبه محصورة بتغطية الطلب الإضافي على العملة من خلال إصدارات جديدة (طباعة النقود)، إذ أن الكمية النقدية المتداولة في السوق لم تعد تكفي لتغطية التبادلات التجارية اليومية. لكن أصل المشكلة أن السياسات النقدية التي يتّبعها مصرف لبنان لم تعد قادرة على تغذية الطلب على الدولار ودعم سعر الصرف الثابت بسبب التدهور المتسارع في موجودات مصرف لبنان بالدولار، وهذا ما أطلق، عملياً، بداية انهيار سعر صرف الليرة. لكن المشكلة تطوّرت أكثر حين بدأت السياسات النقدية تُستعمل من أجل إطفاء الخسائر عبر ضخّ كميات كبيرة من العملة الوطنية في السوق. كان المعدل الشهري للكميات التي تُضخّ يبلغ 1300 مليار ليرة شهرياً، لكنه ارتفع اليوم إلى 1660 مليار ليرة بعدما سارع مصرف لبنان إلى إطفاء قسم من الودائع بالدولار عبر طباعة النقود. ولعب ارتفاع الكتلة النقدية في التداول دوراً محورياً في زيادة تدهور سعر الصرف، إذ إنه كلما تضخّمت هذه الكتلة زاد الطلب على الدولار وهذا الأمر يعود إلى سببين هما:
• استعمال الليرة للاستهلاك الذي يُستورد بغالبيته، ما يعني أن هذه الليرات في نهاية المطاف ستتحول إلى دولارات، وهو ما يزيد الطلب على الدولار.
• هناك أزمات تضغط على استقرار العملة المحلية، فيلجأ الأفراد إلى محاولة الحفاظ على قيمة مدّخراتهم وثرواتهم، فيتجهون إلى تحويل أموالهم إلى أصول تحفظ قيمتها. الدولار هو أحد هذه الأصول. وهذا الأمر يمثّل طلباً إضافياً على الدولار.