علاقة لبنان مع تحويلات المغتربين ليست جديدة، إنّما تصبح أكثر وضوحاً في أيّام الأزمات. كلّما غرق لبنان في أزمة، يتبيّن أن التحويلات تمثّل مصدراً أساسياً لدعم مداخيل السكان وتعزيز تدفّق العملات الأجنبية إلى الاقتصاد. الاعتماد على المغتربين كان دائماً موجوداً، إنما رؤيته كانت تتطلّب قراءة مؤشرات تقنية للتمييز بين حسابات الدخل الفردي وبين حسابات الدخل المتاح. فلطالما كان الدخل المتاح أكبر من الدخل الفردي بنحو 40% بسبب هذه التحويلات، ولطالما كانت التحويلات تمثّل نسبة مهمّة من الناتج المحلي الإجمالي وهي لم تقلّ عن 12% في العقدين الأخيرين.يشير تقرير صادر عن البنك الدولي بعنوان «التعافي: أزمة كورونا من خلال عدسة الهجرة» إلى أن تحويلات المغتربين إلى لبنان كانت تمثّل 12.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018، ولكنها أصبحت اليوم 34%. لهذا الأمر تفسير مرتبط بانكماش الاقتصاد اللبناني من جهة، وبالثبات النسبي لقيم التحويلات المتدفّقة إلى لبنان خلال الفترة المذكورة. فقد انخفض الناتج المحلي من 51 مليار دولار عام 2019 إلى 33 ملياراً عام 2020، ثم يقدّر أنه سيبلغ 20.5 مليار دولار في السنة الجارية. وفي المقابل، بقيت قيمة التحويلات ثابتة نسبياً، إذ كانت تبلغ 7.5 مليارات دولار عام 2019 و انخفضت إلى 6.9 مليارات عام 2020، ويقدّرها البنك الدولي لهذه السنة بنحو 6.6 مليارات.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ثمّة علاقة واضحة بين النموّ الاقتصادي وبين التحويلات. هي علاقة مرتبطة بالأزمات عموماً. ففي أيام الأزمات يصبح اقتصاد لبنان - وهو بطبيعته يعتمد أساساً على التدفقات الخارجية لتمويل الاستهلاك المحلّي - أكثر اعتماداً على تحويلات المغتربين. فالأزمة تعني انكماشاً في النموّ يعبّر عن ضمور النشاط الاقتصادي وينتج فقراً وبطالة. لذا، فإن الاقتصاد الذي يعتاش على الاستهلاك المموّل بالتدفقات الخارجية، لا يمكنه الاستمرار من دون تمويل خارجي إضافي. وبما أن الأزمات تنعكس سلباً على التدفقات الاستثمارية الآتية من الخارج، فإن التدفقات الآتية من المغتربين لأهاليهم المقيمين في لبنان تكون أكثر أهمية في بنية الاقتصاد وفي صمود السكان.
في الفترات التي شهد فيها لبنان أزمات اقتصادية، كانت دائماً تحويلات المغتربين هي العامل الإنقاذي لصمود المقيمين. في 2004 بلغت نسبة التحويلات إلى الناتج حدّها الأقصى لتمثّل نحو 26.4%. أتى ذلك تزامناً مع انكماش النمو الاقتصادي إلى 3% في تلك الفترة. ولولا مؤتمر باريس 2 والتدفقات التي نتجت منه، لما عادت نسب النموّ إلى الارتفاع لتغطّي على تدفقات المغتربين وانعكاسها الفعلي على المداخيل الفردية للمقيمين. تكرّر هذا الأمر في أكثر من مرحلة من العقود الثلاثة الأخيرة حتى عادت نسبة التحويلات من الناتج إلى الارتفاع مجدّداً اعتباراً من 2019 ولغاية اليوم ربطاً بالانهيار الحاصل ومفاعيله الكارثية المتواصلة.
عملياً، كان لدى اللبنانيّين دخلاً متاحاً يفوق بنسبة 40% الدخل الفردي المحتسب على أساس حصّة كل فرد من الناتج. تظهر معالم هذه المعادلة بصورة أوضح إذا أخذنا حركة الاستيراد التي كانت تمثّل قبل الأزمة 50% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل استهلاك الأسر الذي كان أعلى من 100% من الناتج المحلي الإجمالي. أي أن الدخل المحلّي لم يكن كافياً لتغطية حاجات الأسر، وهذه الأخيرة كانت تموّل الفرق من التحويلات الآتية من الخارج.
كذلك، يمكن الاستنتاج بأنه كلما ازدادت الأزمة تعقيداً، كلما زاد الاعتماد أكثر على التحويلات. ففي الأزمات السابقة التي جرت معالجتها عبر مؤتمرات التسوّل في باريس، لم يسجّل انهياراً في سعر الصرف الاسمي خلافاً لما هي عليه الحال في الأزمة الراهنة. كادت الأزمات السابقة أن تؤدي إلى انهيار كالذي حصل في 2019 لولا تسوّل المزيد من التدفقات الآتية من الخارج. وهذا الأمر بذاته ولّد دينامية أكبر في التحضير للأزمة الراهنة، أي بتأجيلها ومراكمة خسائرها. وليس ذلك فقط، بل جاء الانهيار في ظل ظروف محفّزة إذ ترافق مع أزمات إقليمية ودولية انعكست على لبنان مباشرة، مثل الأزمة السورية وأزمة احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية…
على أي حال، التحويلات تأتي من اللبنانيين المهاجرين. وهي ستزيد بسبب موجة الهجرة الحالية. لبنان سيخسر قدراته البشرية مقابل الحصول على المزيد من التحويلات. فالأزمة تمثّل عنصراً طارداً للقدرات البشرية، بينما النموذج الاقتصادي اللبناني يعتاش على هذه التحويلات. وبينما سيراكم المقيمون المزيد من الفقر الاقتصادي، ستكون تحويلات المغتربين علاجاً موضعياً لاستمراريتهم. هذه التحويلات لا تعالج المشكلة الأساسية التي تكمن في بنية النموذج التي يُعمل حالياً على إعادة تكوينها، بل هي تعالج عوارض المرض حصراً. هذه التحويلات ستتيح للمقيمين مواصلة العيش. لن تؤدي إلى ازدهارهم، بل على العكس، إن هجرة القدرات البشرية تعكس انحداراً إضافياً في مؤشرات القدرة على النهوض والازدهار.