ما نعرفه عن العولمة في العقود الأخيرة، انتهى إلى غير رجعة. ثمّة مجال مفتوح لإعادة صياغة الشراكات الاقتصادية بين الدول خارج الإطار السابق. الحدود المفتوحة لتدفقات الرساميل والسلع والأفراد، لن تبقى كما كانت. فعلى أساس استراتيجيات الدول سيتحدّد ما هو مفتوح وما هو مقيّد في التداولات الخارجية. فقد بات واضحاً للعيان، أن العولمة بنسختها النيوليبرالية سقطت، وصار الأمر محط إجماع في التحليلات الغربية. ثمة ملف كامل أُعدّ في مجلة «بدائل اقتصادية» الفرنسية، يشير إلى ذلك. ومثلها أيضاً، «كورييه انترناسيونال» سلكت طريق توصيف هذا السقوط وتحليل أسبابه نحو حقبة جديدة. حتى إن مجلّة «ذي ايكونوميست» لم تعد تنظّر إلى الانفتاح الاقتصادي، بل باتت معنية أكثر بإعادة صياغة الشراكات الاقتصادية انطلاقاً من الحرب ضدّ روسيا.كل ذلك لا يقارن قياساً إلى التقرير الصادر عن منظمة التجارة العالمية في تشرين الثاني 2021 بعنوان «نمو سلسلة القيمة العالمية». استخدمت المنظمة عبارة «العولمة المتباطئة» (سلوباليزيشن) للإشارة إلى حالة انهيار المنظومة القائمة، وقدّمت دلائل عليها. فمنهجية قياس العولمة تكمن في النظر إلى احتساب مساهمة السلع الوسيطة في القيم المضافة الوطنية، لكنّ التقرير يشير إلى أن هذه المساهمة كانت بمعدل 14.2% في عام 2008، وصارت 12.1% في عام 2020. كذلك الأمر بالنسبة إلى النشاط العالمي للمصارف، الذي لم يتراجع بنسبة الربع في هذه الفترة بينما مشاركة هذا القطاع في النشاط العالمي تراجعت بنسبة 40%. لا يقتصر الأمر على هذه المؤشّرات. فصندوق النقد الدولي يقول في تقرير له، إن تعطّل شبكات الإنتاج يؤثّر بشكل بالغ على المخزون والإنتاج والمبيعات. هذا التعطّل ينتج حرمان قسم من العالم من الغذاء ومن معادن هامة استراتيجية مثل البلاديوم والروديوم وسواهما.

11.25

تريليون دولار هي قيمة صادرات السلع الوسيطة في العالم في عام 2019، وهي انخفضت من 13.8 تريليون في عام 2018 ما يمثّل انخفاضاً بنسبة 18%


في الواقع، كانت السردية الغربية عن العولمة، تشير إلى أن الانفتاح الاقتصادي هو بديل فعّال وآمن من النظريات الإيديولوجية التي فشلت في تنمية اقتصاداتها ومجتمعاتها. كما تحدثت هذه السردية عن عوامل قوّة الانفتاح التجاري على الطريقة النيوليبرالية على قاعدة «دعه يعمل دعه يمرّ». وعلى هذا الأساس نُظّمت سلاسل الإنتاج العالمية من الشركات المتعدّدة الجنسيات، وفُتحت الحدود تحت عنوان حرية تدفق الرساميل نحو وجهات تقرّرها المصارف والمستثمرون. أيضاً بات هؤلاء يقررون أيّ معدلات فائدة لهذا الاستثمار، ومن يربح وبأي نسب... كل هذا المسار الذي كان يُنظر إليه باعتباره عوامل قوّة وازدهار، تعزّز بدلاً منه مسار آخر. فجأة صار هناك سياسات صناعية أميركية وأوروبية جديدة في مجالات أساسية مثل أشباه الموصلات، البطاريات الكهربائية، تقنية الـCloud... وكل ذلك صار يُسوّق له تحت عنوان «زيادة الاستقلالية والحدّ من التبعية للخارج».
كانت السوق المفتوحة أهم إنجازات النيوليبرالية، ولو أنها كانت مفتوحة بشكل وهمي. في تاريخ العولمة، أو الدورة الأخيرة منها، هناك عدة مراحل. المرحلة الأولى من أواخر الخمسينيات إلى أوائل التسعينيات. وهناك مرحلة ثانية من مطلع التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى غاية الأزمة العالمية والتي يسميها دان رودريك: «العولمة المنفلتة» أو «العولمة المفرطة»، بحسب التعبيرات المستعملة في المجلة الفرنسية «بدائل اقتصادية». ومن سمات هذه المرحلة تعاظم الاستثمارات الخارجية للشركات، وارتفاع وتيرة تدفق الرساميل. والمرحلة الثالثة بعد عام 2008، سمتها تراجع الاستثمار الخارجي وحركة الرساميل. فالقيود والحواجز بوجه تدفقات الرساميل والسلع والأفراد، نسفت كل هذه المرحلة، إذ اندفعت الدول إلى فرض حواجز إضافية أمام الاستثمارات الأجنبية في القطاعات التي تعدّها استراتيجية. وبحسب تقرير منظمة التجارة العالمية، فإن القيود والحواجز على اختلاف أشكالها وأنواعها (جمرك وغيرها...) ازدادت من 15% في عام 2008 إلى 30% في عام 2020. وبنتيجة هذه المعطيات باتت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، تتحدث عن «عولمة بين أصدقاء». وهو الأمر نفسه الذي يشير إليه تقرير منظمة التجارة العالمية حول إنتاج السلع الاستراتيجية محلياً أو في بلدان حليفة. عملياً، العولمة تتفكّك وسيظهر على أنقاضها شبكات إنتاج وطنية وإقليمية.

القيود والحواجز على اختلاف أشكالها وأنواعها من جمرك وغيرها، ازدادت من 15% في عام 2008 إلى 30% في عام 2020


بفعل جائحة كورونا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، انكشفت هشاشة سلاسل الإنتاج العالمية. فقد توقفت المصانع والمرافئ عن العمل، أو تضرّرت سلاسل التوريد، ما أحدث هزّة تضخّمية عالمية. وفيما تقف دول العالم على مشارف ركود تضخّمي هائل، برزت تصريحات تشير إلى نهاية العولمة بنسختها القائمة. رئيس صندوق بلاك روك - الصندوق الاستثماريّ الأكبر في العالم، لاري فينك، صرّح بأن الغزو الروسي لأوكرانيا أنهى العولمة التي عرفناها منذ 30 عاماً. وفي محصّلة العقوبات الغربية على روسيا، انخفاض نسبة الدولار في احتياطات بنوك العالم بنسبة 12 نقطة، وانخفاض حصّة الدولة في البنك المركزي الروسي إلى 16% مقارنة مع 20% سابقاً. الصين تنشئ حالياً، نظاماً للدفع اسمه «سيبس» (CIPS: china international payement system) بدلاً من «سويفت».
الجائحة كانت أول إنذار بالنسبة إلى عدد كبير من الشركات الغربية لجهة الاعتماد الكبير على الصين. موقف الصين من أوكرانيا، كان بمثابة إنذار ثانٍ. لذا، هناك عدد متزايد من الشركات مثل مانغو، نايك، أديداس، وسواها ممن تعيد توطين مصانعها خارج الصين. النموذج القائم على التصنيع في بلدان لديها يد عاملة رخيصة، لم يعد وارداً. هذا الأمر له أسباب جيوسياسية، ولكنْ له أسباب اقتصادية أيضاً. تعتقد الدول الغربية أن اليد العاملة في بلدان مثل البرتغال وتركيا ويوغوسلافيا هي أرخص من الصين، وأن كلفة النقل لم تعد تبرّر الوجود الصناعي لها في الصين، فضلاً عن ارتفاع أسعار المواد الخام أيضاً مثل الخشب والألمنيوم والزجاج... طبعاً هناك مشكلة في رخص اليد العاملة، لكن المشكلة الكبرى هي في ضمان سرعة ومرونة وصول السلع.

949

مليار دولار هي قيمة صادرات السلع الوسيطة من ألمانيا التي تحتل المركز الأوّل عالمياً وتأتي بعدها الولايات المتحدة بصادرات بقيمة 948 مليار دولار


ماذا يعني ذلك؟ هل هي نهاية حرية التبادل؟ عملياً، العقوبات الاقتصادية على روسيا، والقرارات الأوروبية بوقف أو الحدّ من استيراد النفط والغاز للضغط على روسيا، بالإضافة إلى إقصاء المصارف الروسية من النظام المالي العالمي، كل ذلك أظهر أن حرية التبادل انتهت. بمعنى أوضح، التجارة العالمية بنسختها الحالية، والتي ارتكزت على قواعد الغرب للانفتاح الكامل، أصبحت في مرحلة انهيار. أول مؤشرات هذا الأمر، بدأ مع الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع الصين، وما تلاها من إجراءات ونتائج بسبب الجائحة. فقد تبيّن أن هناك تبعية كبيرة للولايات المتحدة تجاه الواردات من الصين.
في عام 2010 كانت القيمة الإجمالية للتبادلات العالمية الخاضعة للرسوم الجمركية 126 مليار دولار، إلا أنها ارتفعت إلى 1500 مليار دولار في عام 2020 بحسب منظمة التجارة العالمية، ما يعني أن الرسوم الجمركية زادت. وهذه الزيادة تعود إلى ارتفاع عدد السلع التي جرى إخضاعها للرسوم الجمركية. وبالتالي فإن فكرة الرسوم الصفرية التي رُوّج لها باعتبارها العامل الأساسي في الانفتاح التجاري والتبادلات التجارية الدولية، لم تعد مرغوبة بالمطلق في ظل المسار الجديد للعولمة. فالأزمات الكبرى أظهرت أن العولمة بشكلها السائد لا تسمح بحماية فعّالة وحاسمة ضدّ التضخّم، بل يكفي أن تتعطل هذه الشبكات نتيجة ارتفاع حادّ في الطلب أو نتيجة جائحة أو حرب حتى ترتفع الأسعار.