إخفاء مفاعيل التدهور المستمرّ منذ ثلاث سنوات، ليس مهمّة مستحيلة كما أثبتت قوى السلطة في لبنان. فموازنة 2022 هي أبرز دليل على أنه يمكن طمس الأزمة ومفاعيلها، لا بل إخفاء النوايا عما ستقوم به السلطة مستقبلاً. فالموازنة لم تتضمّن سعر صرف حقيقياً للدولار في بلد يستورد غالبية حاجاته سواء للقطاع العام أو للقطاع الخاص، وهي أيضاً لم تتبنَّ مساراً واضحاً لوضعية الدين العام بالعملة الأجنبية وانعكاسات ذلك على النفقات، وفيها تعديلات في تركيبة احتساب الضريبة لتعزيز الإيرادات الضريبية من دون أن تتضمن أي تعديل في أصل السياسات الضريبية، وفيها أيضاً الكثير من التقشّف الذي يرضي أصحاب العقول المحاسبية في بناء الاقتصادات. رغم ذلك، قرّر وزير المال يوسف الخليل في مؤتمر صحافي عقده يوم 21 تشرين الأول 2022، باعتباره خاتمة لأعماله في الوزارة بعد قيام رئيس مجلس النواب نبيه برّي بإقصائه علناً عن منصّة مجلس النواب، الإشارة إلى أن الحكومة «سُمّيت عن قصد بـ«حكومة طوارئ» هدفها الأول كان لجم التدهور».
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الترجمة العملية لما قاله خليل في موازنة 2022 يتلخّص بالآتي: تُقدّر قيمة النفقات بنحو 40873 مليار ليرة، والإيرادات بنحو 29985 مليار ليرة، والعجز بنحو 10887 مليار ليرة. بذلك، بلغ حجم الموازنة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 7.5% مقارنة مع 20.7% في عام 2019 و20.9% في عام 2018، أما النفقات فقد بلغت 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة مع 31.2% في عام 2019 و31.8% في عام 2018. هذه الأرقام ليست متوافرة في الموازنة، إنما هي مستخرَجة من الدراسة التي أعدّها البنك الدولي لمراجعة تطورات المالية العامة في لبنان خلال حقبة ما بعد الحرب الأهلية. بل على العكس، إن الخطاب السياسي الذي ترافق مع إقرار الموازنة في مجلس النواب، كان خطاب انتصار سارع الخليل إلى تتويجه في مؤتمره الصحافي بالآتي: «بالنسبة إلى الموازنة، إذا كان صحيحاً أن عدم إنجازها في شهر تشرين الأول من السنة السابقة هو شرٌّ، فعدم إنجازها أبداً هو شرٌّ مطلق. ومن الأفضل إنجازها متأخّرة بدلاً من عدم إنجازها، كما حصل قبل سنوات، وذلك حفاظاً على الحد الأدنى من حسن الأداء المالي ولجم العجز والإنفاق وفق أطرٍ محددة». لكن في الخطاب نفسه قال الخليل أيضاً: «الدول التي فيها أكثر من سعر صرف هي دول مريضة اقتصادياً. استراتيجياً، يجب أن يتجه سعر صرف الليرة ليتطابق مع سعر الدولار الحقيقي، وهي ربما أبسط وسيلة للجم التهريب والتخلص من المضاربة على حساب قيمة الليرة وبالتالي من اغتناء أقلية من المحتكرين على حساب عامة الناس».
إذاً، أي كلام نصدّق: الإنجاز المتأخر لإقرار الموازنة، أم المرض الذي يصيبنا بفعل تعدّد أسعار الصرف؟ فالموازنة أُعدّت على أساس احتساب الدولار بقيمة 15 ألف ليرة وهو ما يؤدّي إلى زيادة الحاصلات الضريبية بنسبة 27.6%، ومن ضمنها زيادات كبيرة في الرسوم الجمركية (بفعل تعديل الدولار الجمركي) من 483 مليار ليرة إلى 1594 مليار ليرة، وزيادة في حاصلات ضريبة القيمة المضافة بنحو 746 مليار ليرة لتبلغ 5544 مليار ليرة. وفي المقابل، فإن النفقات التي استثنيت منها أي تحويلات لمؤسسة كهرباء لبنان لزوم شراء الفيول لمعامل الإنتاج، والتي تتضمن تأجيلاً كاملاً لكل النفقات الاستثمارية التي كانت مدرَجة بقوانين برامج، والتي يُعتبر فيها الدين بالعملة الأجنبية غير موجود، وُضعت على مسار انحداري بفعل التقشّف. في عام 2020 كانت نسبة النفقات من الناتج 16.4%، ثم انخفضت في عام 2021 إلى 7.3% وإلى 5.5% كما هو مُقدّر في موازنة 2022. وذلك بعكس مسار النفقات الذي كان 13.1% في عام 2020 ثم انخفض إلى 6.3% ف عام 2021 وفي موازنة 2022 يُقدّر بأنه سيترفع مجدّداً إلى 7.5%.
إذاً، تعدّد أسعار الصرف هو آلية لإعادة توزيع الثروة واغتناء الأقلية المحتكرة على حساب العموم، وهي آلية تتناغم مع المَهمة المركزية التي ظهرت من خلال الموازنة والتي تُلخّص بالآتي: طمس مسرح الجريمة يتيح مواصلة نهب ما تبقّى.