طوَت الصين مرحلة العداوة المعلنة ما بين إيران والسعودية. قد لا تصبحان صديقين، إنما ستقومان بما يتناسب مع مصالحهما المشتركة أولاً، ثم تتفقان على إدارة النزاعات الأخرى. انتهت هذه العداوة في سياق تحوّل عالمي جذري تسارع حصوله بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي استحوذت على حصّة وازنة من الاهتمام والانخراط الأميركي - الأوروبي في مواجهة اقتصادية وسياسية وعسكرية مباشرة وغير مباشرة مع روسيا. ساهم ذلك في فتح المجال أمام قوى «حليفة» لأميركا، مثل السعودية، للمناورة رفضاً لطلب أميركي بزيادة إنتاج النفط وخفض الأسعار العالمية، أو عقد اتفاقيات مع محور «الشرق». حتى إن موقفها تجاه الحرب الأوكرانية بات أكثر تحفّظاً. وهذا الفراغ الأميركي في المنطقة خلق للصين فرصة استغلّتها عبر جمع قوّتين من أكبر القوى النفطية في العالم في اتفاق إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره | المصدر: مرصد التعقيد الاقتصادي (OEC)

لكن الصين لم تقم بهذا الدور فجأة، فهي منذ عقود تعدّ شريكاً تجارياً أساسياً في المنطقة، إنما مكانتها التجارية هذه كانت بحاجة إلى أن يكون لها عمق جيوسياسي، ولم تتوّج بعض هذه الجهود إلا أخيراً من خلال الاتفاق السعودي الإيراني، الذي جرى برعايتها في مطلع آذار الجاري. عملياً، يمثّل دخول الصين كلاعب سياسي وازن في المنطقة ضمانة لحصّتها التجارية فيها. إذ إن النفوذ السياسي يُصعّب مهمة فرض عقوبات على تجارتها مع بلدان المنطقة. فعلى سبيل المثال، تحاول الصين تفادي تكرار تجربة إلغاء عقود «هواوي» حول أنظمة الاتصالات 5G، الذي فرضته الولايات المتحدة على كل الدول «الحليفة» لها. فرغم أن أميركا لديها نفوذ واسع في دول الخليج، إلا أنها فشلت في إقناع هذه الدول بطرد «هواوي» ونَبذ تكنولوجياتها المتطوّرة لتقنية الجيل الخامس. حصلت هذه المحاولات في الإمارات، والسعودية والكويت... حاولت أميركا وفشلت، وهي ما زالت تحاول مع الأردن، وربما قريباً ستحاول مع لبنان.
على أي حال، إن الوجود الصيني في منطقة الشرق الأوسط متصل أيضاً بالنفط. فالصين هي المستهلك العالمي الأكبر، وها هي تجمع اليوم اثنتين من أكبر الدول النفطية في العالم. فمن الطبيعي أن تهتم الصين بذلك، لأن إنتاج النفط وسعره يهمّانها مباشرة. النفط مُدخل أساسي في إنتاجها الصناعي والزراعي، وبالتالي فأي تحرّك في أسعار النفط ينعكس مباشرة على كلفة الإنتاج في الصين التي تعتمد على الصناعة والتصدير.
سياق الخطوة الصينية واضح للغاية. فعندما قرّرت أميركا استبعاد روسيا من النظام المالي العالمي وفرضت عليها عقوبات، أدّى ذلك إلى خروج أكبر القوى النفطية عن «السيطرة» الأميركية. روسيا قرّرت تسعير النفط المبيع للدول غير الصديقة بالروبل. وقد تبع هذا الأمر كلام من وزراء سعوديين، بانفتاح أكبر منتج للنفط على فكرة بيع نفطه الخام للصين باليوان الصيني. هذا ينعكس بشكل مباشر على سطوة الدولار، الذي اعتَمد أصلاً، بعد انهيار اتفاق «بريتون وودز» على بيع النفط بالدولار لتمدّد سيطرته. طبعاً، هذا يعني أن هيمنة الدولار قد تصبح مهدّدة.
وتستغلّ الصين علاقاتها التجارية الممتازة مع بلدان المنطقة، ولا سيما إيران والسعودية. فهي أكبر مستورد من السعودية في عام 2020، إذ استوردت نحو 20% من المنتجات السعودية المُصدّرة، بقيمة 33.4 مليار دولار. وفي الوقت نفسه كانت في عام 2020 أكبر مُصدّر إلى السعودية، حيث بلغت حصتها من الاستيراد السعودي نحو 22% بقيمة 31.8 مليار دولار. كذلك، استوردت الصين، نحو 54.4% من الصادرات الإيرانية، بقيمة 5.9 مليارات دولار، في حين كانت أكبر مُصدّر إلى إيران بنسبة 33.6% من استيراد الأخيرة، بقيمة 8.5 مليارات دولار. هذه الأرقام تُظهر مدى الترابط الاقتصادي بين الصين وهذين البلدين، وهو ما يُساهم في احتمالات كبيرة لوجود علاقات استراتيجية تربط بينها وبين أكبر دولتين نفطيتين في المنطقة.
الصين ترى في علاقاتها التجارية نقطة قوة لإيجاد التقارب بين البلدين وإبعادهما عن الهيمنة الأميركية، والحديث هنا يشمل الهيمنة بفروعها السياسية والاقتصادية والنقدية.