«يمضي إلى غرف المعاني شاعرٌ ماينتقي ثوباً مقفًّى لائقاً كي يرتديه حين يعرى حزنه
أو حين يبرد سرُّهُ...
لا يلبس الشعراء غيرَ كلامهم حيناً
وحيناً يلبسون
ما لا يقال
فتخالهم مثل العراة،
يكشّفون نصيبَهم من عورةِ المعنى
بملهى الذكريات»


إذا جاز لنا أن نعتبر أن الكتابة فعل خير، قادرٌ على مواجهة شرّ ما يجول في النفس والعالم، من خلال سماحها للتأويل أن يأخذ مجراه، فإن ذلك يدفعنا إلى تفحّص الخير باعتباره ملكية خاصّة لخيال الكاتب وقارئِه. ربما على هذا المستوى يمكننا أن نقيس كلام غاستون باشلار حين قال بأن القارئ شاعر على مستوى الصورة التي يقرأها. ما عناه هو أن قيمة الخير لدى مخيّلة الكاتب لها الثقل ذاته في خيال القارئ.
بات من العبثي، في هذا العصر، أن نسأل عن معنى الخير فلسفيّاً وعن إمكانية ممارسته، لأن السؤال كهذا ميّالٌ بطبعه، أن يتعرّج كلما أوشك على الاستقامة. الكتابة تشبه هذا التعقيد المحبّب. هي لا تذهب في كِلا الطريقين، الخير والشر لأقصاهما، بل تتجاوزُ حدود هذا وحدود ذاك. الكتابة، بهذا المعنى، فضيلة أكثر ممّا هي خيرٌ. هي أشجع من أنْ تُقتَل وأجبن من أنْ تَقتُل؛ وكأنّي بها أتساءل، إلى أيّ مدى يجوز للخير أن يقضي على الشر حتى لا يتحوّل الخيرُ إلى شرّير سفاك؟ الأمر أشبه بالغنج الأنثوي عندما تغتالنا به مارلين مونرو ما إن تتنفس الأرض تحتها ويلهث الهواء رافعاً أطراف فستانها حيناً، أو عندما تدنو كفّاها لتعيده في لقطة كرّ وفرّ بين الحسرة والإغواء.


مارلين مونرو لآندي وارهول (طباعة حريريّة - 1967)()

في مصنع المفروشات الذي أعمل به، يقتصر عملي على التعامل مع القماش، وفرزه وتفصيله ثمّ قصّه وفق قياسات محددة ليغطي ما يجب تغطيته على جسد الخشب الجالس على نفسه. خطر في بالي سؤالٌ فانتازيٌّ: ماذا لو كنتُ خيّاط فساتين مارلين مونرو مثلاً؟ ثم استبدّت بي العاطفة وجرى بوح التمنّي من حنجرتي: آه لو كنت شاعرها الخياط أيضاً. كل شاعر حقيقي خياط بالضرورة، ولكن ليس كل خياط شاعراً، وتفرض نفسها الأفضلية هنا ليس بداعي التميّز بين الشاعر والخياط، إنما بالمقدرة على حبك المعنى بإبرة الكلام وخيط الخيال، وهذا ما لا يمكن أن يتوفر بالخياطة من دون الشاعرية.
لطالما اتخذتُ عملي في تفصيل القماش ككتابة القصيدة، محاولاً درأ ملل الوقت عن العمل، بأن أشبّه أدوات إنتاجي بأدوات إبداعي، ما الفرق مثلاً بين القماشة والورقة؟ مقصّي وقلمي؟ ماسورتي وبحوري؟ وما الفرق بين عملية تفصيل الأقمشة لتتخذ شكلها النهائي وأسلوبية الكاتب؟ وهل أجمل من أن تتخيل ليلاً مارلين عاريةً وأنت بحالة شعرٍ، ثم تخيط لها في النهار، كعاملٍ، فستان غنجها القاتل؟
الستر والعُري مثل الخير والشر. مثل الرتق والفتق. مثل الكتابة والمحو. مثل مارلين يوم يتجسّد اللامرئي بالمرئي. ركزت معظم الفلسفات الإغريق على الأصل الأول للأشياء، وفي العصر التي عاشت فيه مارلين مونرو، فالاعتقاد العام على الأرجح، أنّها الأصل الأول للثنائيات. على الأقلّ بالنسبة إلي. يمكن للثنائيات أن تؤسس لعبة إثارة الاحتمالات. أما مهمّتك في هذه اللعبة فهي ألا تختار. أن تشير بأصبعيك إلى جهتين تقف فيهما مارلين رماديّةً كاللغة بلا تنقيط، وأنت عليك أن تكتب بمقصّك ما فصّلْتَ من قماش الرؤى، نصَّ ثوبٍ لم تشذّبه بعد على مقاس جسدها.
الستر والعري مرآة للكتابة والمحو. أن تكتب هو أن تتعرّى، ولكي تتستر يكفيك محو ما كتبت. لكن أليس من المعيب على الشاعر ألا يمزّق بمجازه مادّية الفساتين عن جسدِ الأنثى ليخيط لها مِن ثَمَّ ثوباً مقفًّى يستر به ما تيسّر من رغبته ويكنّي به ما ظهر من فتنتها؟ ألم يذكرْ أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني بعض الروايات التي تستسلم فيها المرأة ذات النسب للشعر لا للشاعر؟ أليس «الكلام وحده قادراً على تعرية هذه المرأة» حسبما يقول الأصفهاني في الإشارة إلى ابنة محمد بن الأشعث وقصتها مع الشاعر عمر بن أبي ربيعة؟
لعلّ أهم ما تتيحه لنا الملاحظة الخفيّة هو الشبه الحاصل بين الحياكة والحكاية. فأن تغزل الألياف لتنتج نسيجاً مثل أن تتغزل في اللغة بمن تشاء. إن ما يسترعي الانتباه في هذا السياق، أي بين «الغزلي»، ليس لعبة الجناس، إنّما الاختلاف بين البنية الثقافية لفعل الحياكة، التي تشمل معظم الثقافات العالمية من ناحية ضرورة ستر ما يجب ستره، والبنية الثقافية لفعل الكتابة والحكاية والتي تختلف من ثقافة لأخرى. فهل الستر كغاية لفعل الحياكة يمكن أن يكون موازياً للبوح كغاية لفعل الكتابة والحكاية؟ وهل مثلاً الجسد العاري هو نصٌّ صامت وكلامٌ ساكت؟
يطرح الطاهر لبيب في كتابه «سوسيولوجيا الغزل العربي/الشعر العذري نموذجاً»، مقارنة شيّقة حول «الجنسنة» (Sexualization) بين مجتمع وآخر. يعتبر الطاهر لبيب أنه يمكن للجنس أن يعبَّر عنه عند بعض الثقافات بالحركات والإشارات، لكنّه يرى أن التعبير عنه عند العرب، يجيء في الكلام، بل باللغة، مستنداً في طرحه هذا على بعض ما جاء في الدين الإسلامي من نصوص وعلى ما قاله بعض النثريين العرب كالجاحظ. «فمن حفِظ لسانه وفرجه أمِن شرور الزمان» يقول الجاحظ أو «فقولي إنّي نذرْتُ للرحمن صوماً، فلن أكلّم اليوم إنسيّاً» حسب ما جاء في سورة مريم. يُطرح السؤال هنا: إذا اعتكف الخياط عن مهنته، أي حينما يمتنع عن حبْكِ ورتق الأردية والأثواب، فهل يعطي بذلك تبريراً غير مقصود للعري أم أنه يظلم العراة لأنه حرمهم الشكل الكامل للمادة التي يُسترون بها؟
إن البعد الحسي، ونقصد الجسد، والذي هو العدسة الوحيدة التي يرى الخياط من خلالها تجسيدَ إبداعه، له ارتداده في الخيال على شاكلة تصوراتٍ ورموز. هذا الجسد العاري، هو عذريةُ وبكارة الكلمة والعبارة، وبالتالي فإنه نص صامت. هذا يحيلُنا أيضاً إلى النظر بالمقلوب، إذ على العكس، إن كل جسدٍ مستور هو نصُّ يبوح بحكاياته. فورقة التينُ كأول رداءٍ كما ذاعت أسطورتنا، هي على قدمٍ وساق، فلسفياً، مع فكرة تعلّم آدم الأسماء كلّها، على اعتبار أن الجاحظ لم يضع عبثاً لسان الإنسان وفرجه على القدر نفسه من الأهمّية للحؤول دون شرور الزمان.
على العموم يبقى أن نشير إلى أن مقصدنا من الجسد المستور لا يجوز فهمه حصراً بالورع والعفّة الدينية، لأننا حينما عنينا في البداية أن الخير الذي يتوخّاه الشاعر هو قرين اللذة الأقل امتزاجاً بالقلق، نكون بطريقة أو بأخرى أكثر ميلاً أن نتبنى رأي الطاهر لبيب بقوله إن علاقة الجمال بالعفة هي علاقة مثيرة. فأن يكون المرء عفيفاً في حضور الجمال بنزعة الإثارة، فمعناه أن يعرض الرمز الأول للحياة، أي «الرغبة». يذكر لبيب في هذا النطاق حواراً بين امرأة وسفيان بن زياد، إذ يسألُها هذا الأخير: «ما بالُ العشق يقتلكم معاشرَ بني عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالتْ: فينا جمالٌ وتعفُّفٌ، والجمال يحملُنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقّة القلوب، والعشقُ يُفني آجالنا، وإنّا نرى عيوناً لا ترونها». إن الجسد الذي يبوح بكل شيء هو صنو النص المحشو كلاماً ولا يقول شيئاً. لذلك هو في التعريف، نصٌّ عارٍ غير منسوج، يدنو إلى صنف الشرّ الإبداعي، والجسد الذي يومئ لنا عبر الزيّ هو نصٌّ مفعمٌ بالمعنى ولديه ما يقوله؛ نصٌّ يبوح لا بأسراره بل بكتمانه.
عالم الحياكة وعالم الكتابة ينتجان معنى يخضع لمنهجية واحدة حتى وإن اختلفت أدواتهما. فإذا خاط الخيّاط خيطَه وغزَّ إبرتَه في قماشه نسجَ ثوباً، وإن خطى الكاتبُ خطوَه فوق أرض ورقه وغمّس ريشته في بئر الواقع والخيال خطّ نصاً. جاء في لسان العرب أن القماش أصله من «القَمش» وهو ما كان على وجه الأَرض من فُتاتِ الأَشياء، ولكي تتخذ شكلاً ومعنى فعليها أنْ تلمَّ شملَها وتُخاط وتُرتَق. وكان الجاحظُ يقول إن المعاني مرميّةٌ في الطرقات، أي أن على الفنان أن يشحذ حواسه ويتقن حدسَه ويدقق ملاحظته لكل ما يجري حوله من ظواهر وأحداث إذا أراد أن يبدع. إن المعاني المرمية على جوانب الطرقات تبقى بلا معنى إذا بقيت مكانها ولم تلحظ. كذلك الأمر بالنسبة إلى «القمش» حيث يظل فتاتاً متناثراً على الأرض إذا لم يُنسَجْ. ترقى مهمّة التطريز في الحياكة إلى ذات المهمّة التي تمارسها الحركات في تشكيل اللغة، فيصبح علم النحو والحالة هذه بمثابة رتق متأنٍّ لنسيج النصّ ليكون سليماً ومفهوماً وواضحاً أسوةً بالرداء المطرز الذي يوشّى ليكون متناسقاً وجميلاً وصالحاً للذوق الجمالي. بهذه البساطة كان يمكن لأي شاعر حذقٍ أن يكون مصمّم أزياء مارلين مونرو، ذلك أن عليه حينما ينظر إليها ألا يرى ما يمكن أن يراه الآخرون. على هذا المستوى من المقارنة يجوز للخياط أن يكون شاعرياً في مهنته. أن يقف متأملاً أمام الظاهرة «المارلينية» مدركاً بأنه لا يقصد من خياله أن يخيط لها ثوباً بموديلاتٍ وأوصافٍ جديدة، بل واعياً بأنها هكذا بفطرتها ربما، تأتي إليه حاملةً هذه الأوصاف. الشاعر الذي يمكن أن يأخذَ دور مصمّمَ أزياء مارلين ليس عليه أن يتخيلها إنما أن يراها بكامل أنوثتها، وهو لا يحتاجُ أن يجملَها بالتصاميم، بل عليه أنْ يتحرق لتنفخَ من روحها في تصاميمه، وليكتبَ كل خيّاطٍ قصيدته عليه أنْ يشهدَ تلك اللحظة. تُروى في هذا السياق حكاية في قبيلة شُمَّر أنّ خطيبة عبد العزيز أبتْ أنْ ترتدي قميصها الذي نزعته لُتظهرَ له أن لا عيب فيها، قائلةً له: «لن أرتديه قبل أن ترتجلَ شعراً». هكذا هي مارلين، لقد عرّفتْ نفسها بجسدها وعرّفتِ الشاعر الخيّاط بقدرته على نسج القوافي.
يمكن أنْ نتفق بأن الفنان يُوحى له. لن يكون عبثاً أن يتساوى الوحيُ في الكتابة مع دودة القزّ في الخياطة. فالوحيُ على أهميته ذو مهمة ضئيلة في أي عملٍ إبداعي ولا سيما الكتابة، وعلى الفنّان في حقيقة الأمر يقع العبء والتعبُ كله، والمسألة ذاتها تنطبق على دودة القزّ، فصحيح أنها الشرط الأول والأساسي طبيعياً لإنتاج الألياف والحرير، إلا أنّها تخضع لاحقاً لمستوى آخر من الصناعة ليظهر النسيج في عملياته الأخيرة إنتاجاً قابلاً للاستخدام. فكلّ نصّ إبداعيّ قد يبدأ من ومضةٍ موحية، ولكنه لا ينتهي إلا بجهد وكدّ كاتبه، ولقد عالج محمود درويش في قصيدته لاعب النرد هذه القضيّة عندما قال: «لا دور لي في القصيدة إلا إذا انقطع الوحي، والوحي حظُّ المهارة إذ تجتهد». على المنوال نفسه، تخضع مقاربة دودة القزّ في الحياكة لمقولة الوحي في الكتابة انطلاقاً من افتراضنا القائم على فكرة المسبب الأول للإبداع كما أن القطبة الخَفيّة في فنّ الحياكة تفعل مقامَ المجاز في القصيدة ومقام الموضوع في النثر، فيما أي انتفاء لوظيفة كل منها يؤدي إلى سقوط العمل الفني في الفوضى.
في العودة لفكرة الخير والشر: إذا كانت الكتابة فعل خيرٍ والشعراء يتّبعهم الغاوون، فذلك يعني أنّ الخير ليس على الدوام خيراً، وبالتالي يمكن حينها أنْ تسقط معادلة أن الخير يعارضه الباطل أي الشر. أنت، أمام مارلين مونرو، كل هذه الثنائيات لأنها تخيطُك كشبكة العنكبوت. وإن كنت خياطها، أو شاعرها، فسوف تجنّ، ولكن ليس على المجنون حرج ولا له حساب مهما خيّطَ أو كَتَبَ.