«لا توجد بوّابة، ولا قفل، ولا مزلاج يمكنك تثبيته على حرية عقلي» - فيرجينيا وولف
الخطوة الأولى هي إدراك عجز أي شخص عن حبس عقله، فيما تشتمل الخطوة التالية على بناء نظام داخل العقل لإنشاء توازن خاص به. بإمكان العقل الحر توليد طاقة قوية تغيّر الذات والعالم من حوله.
«فالكيري مومبيت» (Valkyrie Mumbet) هو عمل تجهيزي تستكشف فيه الفنانة البرتغالية جوانا فاسكونسيلوس (Joana Vasconcelos) الإمكانات الإبداعية لهذه الحرية العقليّة. في عملها العملاق الذي عُرض العام الماضي في متحف MassArt في بوسطن، تربط التاريخ الشخصي والجماعي للاحتفاء بقوة المرأة من خلال إظهار الشخصيات والمحطّات التاريخية التي لم يتمّ تمثيلها بشكل كافٍ في النقاشات حول العبودية والتغيير الاجتماعي.

تجهيز «فالكيري مومبيت» (Valkyrie Mumbet) للفنانة البرتغالية جوانا فاسكونسيلوس لدى عرضه العام الماضي في متحف MassArt في بوسطن

إن «إلغاء العبودية» هي كلمة مستخدمة في القرن التاسع عشر لدى المطالبين بإلغاء مؤسسة العبودية. وكانت المرأة نشطة للغاية في هذه الحركة، في الوقت الذي كانت فيه مذعنة وبلا أي دور في المجال العام. مع ذلك، جذبت حركة إلغاء العبودية عدداً قليلاً من النساء إلى صفوفها، ومن بين النساء الأفريقيات الأميركيات اللواتي كنّ ناشطات في تلك الحركة إليزابيث فريمان (مومبيت 1742 -1829). كانت هذه المرأة الأفريقية المستعبدة هي أوّل من يفوز بدعوى الحرية عام 1780، بعد المصادقة على دستور ماساتشوستس الذي تضمّنته عبارة «كل الناس خُلقوا أحراراً ومتساوين في القانون». كلمات أنعشت مومبيت، ودفعتها إلى استخدامها للمطالبة بحريتها، لتصبح امرأة حرة بعد عام. وقد ساعدت معركتها القضائية لنيل حريّتها في رفع الصفة القانونية عن العبوديّة في ولاية ماساتشوستس.

حوار حول العبودية
إن شجاعة إليزابيث «مومبيت» وإسهاماتها الكبيرة في إلغاء العبودية ألهمت جوانا فاسكونسيلوس في تجهيز وتركيب ضخم، وهي الفنانة المعروفة بأعمالها غير المسبوقة في مجال الوسائط المتعددة. في عرضها الفردي الأوّل في الولايات المتحدة، قدّمت فاسكونسيلوس بناء فالكيري (وهو اسم مستوحى من آلهة الحرب الإسكندنافية، ويشيد بالنساء الملهمات) مصنوعاً ومشغولاً بالمنسوجات الملوّنة والفاقعة، التي تحمل دلالات عديدةـ، منها ما يرمز إلى قوة عقل مومبيت وتأثيرها على العالم، وهو وسيط تم تصويره تاريخياً على أنه عمل «أنثوي وحِرَفي» وليس وسيطاً فنيّاً بحتاً. في العمل تُخيط المنسوجات معاً التاريخ الفردي والجماعي للاحتفاء بعمل المرأة وحريتها، وإثارة حوار راهن ومعاصر حول العبودية والاستعمار والتغيير الاجتماعي.
ترك هذا العمل لدينا أثراً داخلياً دفعنا إلى الانطلاق من الإعجاب بهذا التجهيز الفني نحو الأسئلة الكبرى التي يثيرها. هل انتفت العبودية في القرن الحادي والعشرين؟ أم تغيرت وجهتها وباتت «طوعية والحرية بيد الشعب إذا أراد ذلك» كما يصفها الفيلسوف إتيان دولا بويسي؟ هل العبودية الطوعية، كما هي حالنا في لبنان، هي عبودية معاصرة باعتمادها الرضوخ للزعيم الطائفي كما هو الرضوخ لواقع مُزرٍ؟
القضية ليست بالبساطة التي تبدو عليها. إن من يقبل لنفسه الرضوخ، وأن يكون عبداً، فلا بد أن هناك أسباباً خفية ودوافع ما قد نجهلها جميعنا من دون استثناء، بمن فينا المعترض على العبوديّة.
عندما يتنازل الإنسان عن الحرية ويرضخ للعبودية والذل، يكون الأمر عارضاً طارئاً، أي لا صلة عضوية له مع القانون الطبيعي، ما يعني أن علاجه ممكن وخصوصاً في الحالة اللبنانية حيث تفرض على المواطنين منذ ولادتهم بيئات مغلقة، توجب عليهم الخضوع لعائلاتهم أو لقيادات سياسية أو دينية منذ سنواتهم المبكرة. سينشأ المواطنون عندئذ بطريقة تجعلهم يقبلون العبودية والعيش تحت الاستكانة والخنوع على حد تعبير دولا بويسي، وخصوصاً إذا لم يعوا سلطة هذه البيئات والقوانين.
إن حالة فوز المناضلة مومبيت في المحكمة، ونيلها حريّتها خلال القرن التاسع عشر، قادت الفنانة البرتغاليّة إلى الإبداع من أجل إلهام الجماهير المعاصرة، وعندما يسعى اللبنانيون إلى تحررهم سنحتاج إلى مئات الفنانين للاحتفاء بذلك.

العين في رحلة ساحرة
في عمل «فالكيري مومبيت»، صلة عبر المكان والزمان والثقافات، ربما يكون أكثرها وضوحاً «الذراع» الأرجوانية الوحيدة التي تحيط بنهايتها كرات صفراء تشبه قلادة الخرز الذهبية في صورة مومبيت المستنسخة على جدار المعرض. على الرغم من أن التركيب يحتوي على العديد من الأنماط والأشكال الأخرى، مثل الدوائر والمثلثات والأعلام على شكل أوراق الشجر، فإن اللمحة الأولى لعناصر النسيج الفريد باللون الأصفر النابض بالحياة على شكل قلب تمثل تكريماً خاصاً لإليزابيث فريمان «مومبيت» وشجاعتها.
تجهيز واسع النطاق تميز بأناقة مجموعة من الأقمشة القطنية التي تسلط الضوء على المطبوعات الحية المستعارة من الأنماط الأفريقية والتصاميم الهندسية بألوان متباينة والتي تجذب العين في رحلة ساحرة. غالباً ما تعمل التكوينات الدائرية على الأشكال المنتفخة ذات الأشكال الحيوية كعيون إضافية، تتخلل حواسّنا لتنطلق في رحلة بين السمع والبصر.
تتّسم أعمال فاسكونسيلوس بروح الدعابة، وهذا لا يلغي العظمة والقوّة المتمثلتين في تطرّقها إلى مواضيع وشخصيات نسائية محاربات من أجل التحرر. أعمال كهذه تحمل أهميّة ملحّة، كونها تملك القدرة على إثارة حوار أكبر وأعمق حول العبودية والاستعمار والتجربة الأفريقية الأميركية ودور المرأة في التاريخ. إن الاعتراف بمثل هذا الفرد الذي عانى واستطاع التغلب على التمييز على أساس الجنس يقلب السرد الجماعي من الداخل إلى الخارج.
بالنسبة إلى فيرجينيا وولف، فإن عقلها هو مساحة لكتابة الروايات ومساحة مجازية للتحدث بصوت عالٍ. بالنسبة إلى فاسكونسيلوس، فإن عقلها هو مساحة للإبداع والتعبير بحرية باستخدام الوسائط الفنية التي تحبها. بالنسبة إلى مومبيت، فإن عقلها هو مكان خالٍ من الاضطهاد حيث يمكنها العيش والتعامل على قدم المساواة مع أي شخص آخر. هناك طرق لا حصر لها للعيش، بقدر ما توجد أنواع مختلفة من الناس.
هذا تماماً ما يشكّله عمل «فالكيري مومبيت» الذي استحوذ على مساحة المعرض بأكمله، فهو عبارة عن غرفة «خاصّة بنا» تدعونا إلى التواصل والتأمل في الماضي الاستعماري وفي قصة وروح مومبيت. إنها تلهمنا للتفكير في ثراء واستقرار وسلام العقل الحر حقاً والاستمرار في بناء واقع غير مقيّد، حرّ وصلب.