«اعفي عني، ولنبثّ الحنين بيننا من جديد»، ينتصر إنغمار بيرغمان للأمل منهياً صراعاً دام أكثر من ثلاثين عاماً بين إيفا (ليف أولمان) وأمها شارلوت (إنغريد بيرغمان) في فيلمه «سوناتا الخريف» (1978) وتتحوّل فيه الابنة إلى دليل أمها آخذة بيدها إلى مجال جديد تعود فيه الأدوار إلى نصابها المُتوقّع. إن البوح بين الابنة وأمها هو اختراق لعلاقة لا نعرف عنها سوى القدسية والكتمان حتى يغيّم الضباب على حقيقة سوادها.
«بيزنطة» للفنانة البريطانيّة جيني سافيل (زيت على كانفاس - 2018)

للتجربة الأمومية القدرة على جعل أجيال من النساء يرفضنها ويقاومنها من جهة، وعلى خلق الحاجة إلى الأمومة لدى أخريات من ناحية ثانية. إنها علاقة متوتّرة، تصلح للحب ونقيضه، كما تصف الكاتبة المصريّة إيمان مرسال في كتابها «كيف تلتئم - عن الأمومة وأشباحها»: «إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وبين ذات الطفل فلن ينتصر أحدهما، سينتصر (الديناصور) إنه الذنب... ويبدو أنه الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهن... إنه شعور جوهري يصلح كتعريف لممارسات الأم في حياتها اليومية»، نعم إنه الخوف من عدم الكفاءة ورعب فقدان القدرة للسيطرة على الفروقات الجوهريّة ما بين الأم وابنتها، والقلق المتجذّر من لوم الأبناء والمجتمع. إن الأم تخاف أن يكفر الناس بأمومتها إذا عجزت عن تحقيق ألوهيّتها المتوقّعة، ورعاية مسخوطها الطيني الذي صنعته في رحمها ونفخت فيه روح الحياة ولم تقدر على حبه. ما مصير الطفل إذا لم تحبه أمه؟ وما مصير الأم العاجزة عن محبة أبنائها؟ هل تسقط أمومتها؟ أم أن الأمومة المثاليّة، ما هي إلا تلك العلاقة القائمة على الكتمان، كتمان الغضب والخوف والقلق والذنب؟

ابنتي وأمي
تقبع النساء في المنتصف. أدخلتهن يد الطبيعة في التجربة. لقد وقعت النساء بين أمهاتهن وبناتهن وبين الاحتمالات العديدة التي تخلقها تلك العلاقة المتغيرة. قانون الأمومة كالطبيعة هو ميلاد الحياة من رحم الموت. ولكي تصير المرأة أماً، عليها أن تختار شيئاً في داخلها لتقتله مهما طال الزمن. في فيلم «الابنة المفقودة» للمخرجة ماغي جيلينهال تفتش الأم ليدا (أوليفيا كولمان) في ماضيها بعد مرور أعوام منذ لقائها الأخير مع ابنتيها. وتضرم الذكريات النار في قلبها بين خوف من تجربة أمومة باءت بالفشل وخوف من تيه وقعت في شباكه وقد أفقدتها الأمومة نفسها وضاعت في التماهي مع ابنتيها رغم ابتعادهما وانفصالهما المعنوي عنها. إن الولادة هي فعل بيولوجي بلا شك في ماديته، نعرف كيف يبدأ ونعرف نهايته، يختتم بقطع الحبل السري وتسرّب أوكسجين رئة الأم وتبخّره في هواء غرفة العمليات. ولكنها فقط البداية لارتباط معنوي يتعلّق بالنظرة التي سنحبّ بها كل شيء ونكره بها كل شيء. ارتباط عنيف في مأساته ومسرّاته بلا هوادة يصيبنا منذ الطفولة، فيمر العمر ونكاد ننسى وجوه أمهاتنا، ولكن أي محاولة منا نحو أمومة بصورة جديدة تُعيد إحياء ملامحهن لا إرادياً.
إن خصوصية العلاقة بين الأم وابنتها تجعل من الأمومة محطّة لإعادة خلق ذات الأم من جديد: شخصان يملكان القدرة على منح الحياة. عندما تكتشف الأم أن جنينها أنثى فهي تُعيد تمثيل ذاتها من جديد في جسد يشبهها وعيون تعكس صورة أزلية لأمها وكل الأمهات اللاتي سبقنها. يورثن بعضهن ذاكرة الفرار من تجربة حوّاء الأمومية ومن غضب إلكترا على أمها. قد تتجلى إشكالية العلاقة بين الأم وابنتها في صورتين أساسيتين أطرتهما الفنون والأدب والسينما في العديد من الأعمال: الأم الكهف، والأمّ الشجرة.

الأم الكهف
الأم الكهفية المتكلّسة الملتفّة حول ذاتها في طبقات صخريّة متراكمة. رحمها هو بوّابة الحياة لابنتها وفمها هو فوّهة كهفها الذي تبتلعها فيه، التي لن تتحول من طفلة إلى أنثى إلا من خلال منظورها هي ولن تصير يوماً ما أماً إلا تكراراً لأمومتها هي.
إنها الأم التي تخاف أن تلد ابنة، وتخاف من أمها وأخوتها وخالاتها والنساء المحتملات في حياتها، وتعزز وجودها المادي بوجود أبنائها الذكور تحديداً لأنها تعلم حدود قوتها وكيف تستطيع أن تستغل أمومتها. عندما تعرف هذه الأم أن جنينها أنثى، يمكن أن تصيبها مشاعر الأمومة مؤقتاً ولكنها سرعان ما تتلاشى حين تُدرك أنها تُربي أماً. تعرف أن عليها الاحتماء من قانون أزلي يطاردها وأنها بلا شك ستخضع إليه فتلجأ إلى توكيل القوة التي يمكن أن تمنحها لابنها، فالأم الكهفية تبحث عن ذكورتها فيه وتتحول من دون أن تعرف إلى امرأة تكره النساء وتبحث عن فرصة للهروب من تجربة أمومة مع ابنتها يمكن أن تعكس حقيقتها الداخلية أمام عينها وتتكشف في مراحل نمو طفلتها التي سرعان ما ستتحول إلى أنثى ناضجة والتي بالتأكيد ستسلب منها أنوثتها ويتحقق خوفها من انتقاص وجودها. تعبّر الأكاديميّة الأميركيّة كاميلي باليا عن هذه الدورة الدائريّة في كتابها «أقنعة جنسيّة» بقولها «دورات الطبيعة هي دورات المرأة. فالأنثوية البيولوجية تنتج من نوبات العودة الدائرية، تبدأ وتنتهي من وإلى النقطة نفسها».
تتعلق الابنة بأمها في معظم المجتمعات، ولكن الأمر ليس كذلك دائماً بالنسبة إلى الأمّهات. كم من أم كهفية تعيش في رعب من أن تُهدّد ابنتها مكانتها الأمومية في الأسرة؟ ومن أن تُهدد بجمالها مكانتها كأنثى بين الرجال التي يُحتمل أن تواعدهم وبين والدها نفسه؟ إذا أدركت الابنة أن ليس لها مكانة داخل قلب أمها، إلا بكونها مهمّشة وضئيلة ستقع في هوّتها الخاصّة التي تتخذ شكل الأمومة الرافضة.
تُحيي الذكورية في الكثير من المجتمعات، حتى اليوم ثقافة رفض الأنثى كمولود لا يقدّم تكلفة وجوده مستقبلاً، في مقابل ولادة الذكور كامتداد لصلب الأب ومضاعفة قوة العشيرة. تولد النساء عندها بعار الفقر الذي يُصِيب أمهاتهن فاسدات الرحم، وهشاشة أنوثتهن المعيبة التي تجرح شرف ذكور عائلاتهن. عاجلاً أم آجلاً، سيأتي دور الابنة، لتتحوّل بذاتها إلى أم كهفية جديدة تبتلع ابنتها داخل كهف سبق أن ابتلعتها فيه جدتها، في متوالية ابتلاع لا تنتهي من توارث الحقد بين النساء.
قدّم المخرج النمسوي مايكل هانيكي مثالاً قريباً من الأمّ الكهفيّة في رائعته السينمائيّة «معلّمة البيانو» (2001). تعيش إريكا (إيزابيل أوبير) الابنة السادومازوشية مع أمها (آني جيراردو) حتى عمر متأخر. تعذّبان بعضهما البعض في برودٍ، بقدر تعلّقهما ببعضهما البعض، في مفارقة يقوم عليها الفيلم بأكمله. ترفض الأم أن تشتري ابنتها فستاناً جديداً أو أن تدخل في علاقة مع أحدهم، وتلاحقها في مكان عملها بخوف من أن تهرب يوماً ما منها ولا تعود إليها مجدّداً. ومن خلال هذه العلاقة يكشف هانيكي عن صراع مشاعر انحرافية مكبوتة تحتفظ بها الابنة اتجاه أمها وقد أسقطتها على ذاتها بالسعي وراء التعذيب والألم والحقد على من يمكن أن يكون جزءاً من حياتها، خصوصاً العُشّاق. الثابت الوحيد في هذا الفيلم هو أن الخوف قد ألغى ملامحهما البشرية الأنثوية وافترسها.

الأم الشجرة
إنها الارتقاء من جذور الرعب الأمومي الممتدة أفقيّاً إلى الأعلى رأسيّاً نحو تجربة جديدة للتصالح مع معركة ماضيها ونشأتها. إنها الأم التي تنتصر للأنوثة وتعبد ديمومة الحياة في رحم ابنتها. إنها على وفاق مع الطبيعة، تعرف أن ذات ابنتها منفصلة عنها وأن ارتباطهما مؤقت في رعاية الأم حتى تتمكّن من التحليق لاحقاً. الولادة عند الأم الشجرية هي التحوّل والتجلّي والأبدية. تتوقّف إيمان مرسال في كتابها «كيف تلتئم - عن الأمومة وأشباحها»، عند جسد الأم، قائلة «إن على هذا الجسد أن يتأكد من أن الحمل هو استثمار جيّد للمستقبل. ستكون المشيمة إذا كسب الجنين معركته، لكن في نفس الوقت لابد من أن تكون غشاءً رقيقاً يفصل دم الأم عن دم الجنين، الانفصال لا التماهي هو شرط النجاة لكليهما». إن الأمومة عندها هي التجربة المصيرية لها ورحلة كمالها الوجودي.
تبحث في ابنتها عن الأنوثة المطلقة بعيداً عن قوالب النساء والرجال وعن قالبها هي ذاتها. تربي أنثى أملاً في فرصة جديدة لكل النساء أن يعشن إنسانيتهن. الرعاية الأمومية هي منح الحياة والغذاء والأمان. هذا ما تختصره المحلّلة النفسية الفرنسية مي كيونغ يي قائلة بأن التفاني هو جوهر الأمومة حتى أن الأم تغيب عن ذاتها وتحضر لدى أولادها بصورة لا حدود له (كتاب «جنون الأمومة الطبيعي» لجاك أندريه وآخرون). يعرض لنا بيدرو ألمودوفار في فيلمه «العودة» (Volver - 2006)، علاقة استثنائية بين الأم ريموندا (بينولوبي كروز) وابنتها باولا (يوهانا كوبو) والتي تكتشف فيما بعد أنها أختها أيضاً لأن ريموندا هي ضحية اغتصاب والدها لها بعد هروب أمها. ومن أجل حماية ابنتها وأختها من مصير مشابه، تقوم ريموندا في صورة الأم الحامية بقتل زوجها بعد محاولة اغتصاب باولا زاعماً أنها ليست ابنته. إن الأمومة مجال واسع من المعجزات لا تتوقف عند الولادة والإرضاع، بل هي فعل يتنامى بالتجربة ليصل إلى الحدّ الأقصى من الانحراف والشرور. ولتقدر الأم على مواجهة جريئة مع أمومتها الذاتية عليها أن تملك القوة على حلّ معاركها وإعلان التصالح مع ماضيها.