باريس| تُعدّ صناعة الأدوية من المجالات الاستراتيجية الفرنسية التي تحظى برعاية خاصة من الحكومات المتعاقبة التي «تدلّل» مختبرات البحث وتحميها، ليس فقط من المنافسة المشروعة وغير المشروعة والتجسس الصناعي، بل أيضاً من الخسائر، وذلك عبر تسهيل تسويق منتجاتها في السوق المحلية وسداد نسب عالية من قيمتها لدى الضمان الاجتماعي. إلا أن السؤال الذي يطرح اليوم هل يحصل هذا على حساب صحة المواطن الفرنسي؟مناسبة طرح السؤال تأتي بعد كشف الوكالة الفرنسية لمراقبة سلامة الأدوية والمواد الصحية (AFSAP) عن أن دواء ميدياتور (Médiator) المضاد للسكري والقاطع لشهية الأشخاص البدينين، قد يكون هو السبب الرئيسي في وفاة ما يزيد على خمسمئة شخص على مدى ثلاثة وثلاثين عاماً، قبل أن تعود وترفع هذا الرقم إلى ألفين، وسط موجة عارمة من الغضب الشعبي، وخصوصاً بعدما كشفت الصحف عن وجود تقارير تعود إلى عام ١٩٩٥ تشير إلى خطورة «استعمال غير مؤطّر طبياً» لهذا الدواء. كذلك كُشف عن عدد من «التحذيرات» التي أطلقتها فرق طبية تابعة للضمان الاجتماعي والتعاونيات المختلفة تشير إلى ضرورة إعادة النظر في ترخيص هذا الدواء الذي يدخل في تركيبه الـ«أنفيتامين»، بينما كل العقاقير التي تضم هذا المركب تخضع لـ«إشراف صارم ومراقبة طبية». إلا أن كل هذه التحذيرات بقيت من دون ردّ فعل، ولم يسحب الدواء إلا في عام ٢٠٠٩، أي بعد ١١ عاماً.
لماذا؟ تتساءل صحيفة «لو فيغارو»، كما أهل الضحايا. ففي عام ١٩٩٧ سُحب دواء «إيزوميريد» (Isoméride) القاطع للشهية من التداول، وهو من إنتاج مختبرات سيرفيه نفسها التي تنتج «ميدياتور»، بسبب خطورة الإصابة بارتفاع ضغط الدم في الرئتين مع إمكان انسداد صمام القلب. إلا أن تركيبة هذين الدواءين الكيميائية متشابهة كثيراً جداً، وكلاهما يحتوي على عامل الـ«نورفينفلورامين» الذي يؤثر على صمام القلب بنسب متساوية، أي إن عوارضهما متشابهة. ولكن جرى سحب «إيزوميريد» وكل العقاقير التي تحوي الـ«نورفينفلورامين» قبل عام ٢٠٠٠، ما عدا «ميدياتور»، رغم أن إيطاليا وإسبانيا سحبتاه من التداول بعد تحقيق من قبل الاتحاد الأوروبي، شاركت فيه فرنسا، وقضى بخطورة هذا الدواء.
وتقول مختبرات سيرفيه إن سبب عدم سحب «ميدياتور» من السوق الفرنسية هو «العدد المتواضع للمضاعفات الناتجة من تناوله»، نسبة إلى عدد الذين يتناولونه. إلا أن صحيفة «ليبراسيون» كشفت عن «خوف الشركة من انفضاح أمر خطورة الدواء». ونشرت برقية لرئيسة شركة «سيرفيه أميركا»، زوجة صاحب المختبرات جاك سيرفيه، تطلب فيها من شركة «وييث» (Wyeth) المسوّقة لهذه العقاقير «إعداد خطة لإسكات منتقدي هذه الأدوية»، أي خبراء وزارة الصحة الفرنسية الذين استطاعوا وقف تسويق «إيزوميريد» قبل أن يُسحب من الولايات المتحدة عام ١٩٩٧. وكشف عدد من الخبراء عن أنهم «تلقّوا تهديدات بالقتل»، كذلك أُرسلت «توابيت صغيرة» إلى رئيس قسم تقويم الأدوية الذي كان على رأس حملة التحذيرات، بينما ذكرت صحيفة «فرانس سوار» أن رسالة وصلت إلى محامية المرضى الأميركيين، وفيها «صورة ابنتها وهي في طريقها إلى المدرسة»، ما يذكّر بأساليب المافيا لردع من يقف في طريقها. وتقف مصالح مالية واستراتيجية كبرى وراء هذه الفضيحة التي تتبلور يوماً بعد يوم. فمختبرات «سيرفيه» هذه تحتل الرقم ٢ في صناعة الأدوية الفرنسية، بعد شركة «سانوفي أفينتيس» (Sanofi Aventis)، وحققت رقم أعمال بلغ ٣،٧ مليارات يورو السنة الماضية، منها ٥٠٠ مليون يورو في السوق الفرنسية. ومن الغرابة أن هذه المختبرات «لا تدفع أي ضريبة دخل» ولا تعلن أرباحها، إذ إنها مسجلة على أساس أنها «مؤسسة خيرية في هولندا»، ويرأس مجلس إدارتها مؤسسها جاك سيرفيه (٨٩ عاماً)، وهي تشغّل ما يزيد على ٢٠ ألف عامل وباحث في ١٤٤ دولة حول العالم، وقد أطلقت دواء ميدياتور عام ١٩٧٦، ويعدّ «حصان أرباحها التجارية» ومحرّك شهرتها.
إلا أن «سيرفيه» هي أيضاً أحد مداميك صناعة الأدوية الفرنسية التي يصل مجمل أرقام مبيعاتها إلى ٥٠ مليار يورو سنوياً، ٤٦ في المئة منها تصبّ في خانة التصدير، لتمثّل ٦،٨ في المئة من صادرات فرنسا، ومن هنا دورها في ميزان المدفوعات الفرنسية.
وتعدّ صناعة الدواء في فرنسا من المجالات الاستراتيجية التي تدخل في صميم «سياسة الدفاع الفرنسية». ولا يتردد تقرير حصلت عليه «الأخبار» في الإشارة إلى أن «الخطر الصحي يعادل خطرَي الحروب والإرهاب»، وأن على فرنسا الاستعداد بقوة لأي «أزمة وبائية كما لو أنها تستعد لحرب». وبالتالي يدعو التقرير، الذي كتبه نخبة من علماء فرنسا بناءً على طلب الحكومة الفرنسية قبل ثلاث سنوات، إلى «إبقاء هيكلية صناعية للدواء على الأرض الفرنسية» عبر تحفيز الجامعات والمختبرات على العمل لإبقاء هذه الصناعة على مستوى قادر على مجابهة التحديات، وينصح بـ«تسهيل تسويق أدويتها وبيعها»، مع الإشارة إلى أن موقع فرنسا تراجع من المرتبة الثانية إلى المرتبة السادسة في السنوات العشر الأخيرة.
ويرى المراقبون أن «التغاضي» عن بعض المخاطر والتضحية بعدد من المرضى في سبيل دعم بعض الشركات المصنّعة للدواء يمكن أن يكونا ضمن «سياسة المصلحة العليا»، شرط ألا يُكشف عنهما، تماماً كما حصل مع إزوميريد لا كما يحصل مع ميدياتور. إلا أنه يبدو أن طمع سيرفيه بالمزيد من الربح وثقته بنفسه وبعلاقاته مع الحكام وإمكان «تنفيس الحملات المضادة»، كل هذا جعله يذهب بعيداً في رفض سحب هذا الدواء، إلى أن كُشف عن عدد الضحايا ووصل الأمر إلى المحاكم، إضافة إلى تأليف لجنة برلمانية لكشف أبعاد هذا «الإهمال» الذي لم ينتبه إليه أيّ من «الوزراء الأطباء» الذين مرّوا على وزارة الصحة في العقود الثلاثة الماضية.


دور ساركوزي

جاك سيرفيه ليس فقط رجلاً عصامياً أسّس مختبراً صغيراً ورفعه إلى مستوى عالمي، بل هو أيضاً شخصية لها علاقات وطيدة مع رجال السياسة والحكم على مرّ العهود المتعاقبة على رأس السلطة. لكن لعل أهمها هو علاقتة برئيس الجمهورية الحالي نيكولا ساركوزي (الصورة). فقبل أقل من سنة، قلّد ساركوزي «صديقه سيرفيه» وسام شرف برتبة «وشاح الصليب الكبير»، طبعاً قبل الكشف عن فضيحة «ميدياتور»، إلا أن العلاقة بينهما تعود إلى ثلاثين سنة. فسيرفيه كان «زبون المحامي شيراك» في مكتب المحاماة منذ عام ١٩٨٣ عندما كان مختبره لا يزال في بدايته. وعند انتقال ساركوزي إلى مكتب آخر أسّسه عام ١٩٨٧ هو وشريكه أرنو كلود، تبعه سيرفيه الذي باتت شركته تضم «مجموعة متشابكة من الشركات المتعددة الجنسيات». وكشفت «ليبراسيون» عن أنه جاء عام ٢٠٠٠ ليستشير ساركوزي في إمكان «نقل ملكية شركته ومختبراتها إلى مؤسسة خدمات إنسانية في هولندا» لحمايتها من الشركات الكبرى. وعندما قلّد ساركوزي صديقه الوشاح، ذكّره بهذه الحقبة بقوله «لقد جعلت من شركتك مؤسسة، وقد أدّيت أنا دوراً في ذلك». لم يمنع هذا ساركوزي من طلب الكشف عن «كل ملابسات هذه الفضيحة».