كلّ شيء ممكن للزعيم الإيطاليّ سلفيو برلوسكوني، بل ومطلوب، أي شراء الأصوات والبشر، وأيضاً استخدام الجنس والإعلام والتهديد والوعيد والإغواء، فهو وفيّ لابن بلده العظيم ماكيافيللي، «الغاية، حقّاً، تبرّر الوسيلة». الحكايات والقصص التي تلاحق هذا الزعيم أكثر من أن تعدّ وتحصى، لكن بعضها مثير لأنه يتعلق بقضايا تتجاوز صميم اللعبة الجنسية والإيروسية الحميمية، فتدخل في عالم السياسة والعلاقات الدولية. فمثلاً المومس المغربية روبي (كريمة)، اعتُقلت على خلفية سرقة، فأطلق سراحها، بأمر من رئيس الحكومة، على اعتبارها «قريبة» للرئيس المصري، حسني مبارك، صديق برلوسكوني.

ورغم الانتقادات التي تنهال على الرجل وتقارنه بزعماء فاشيّين سابقين، فإن برلوسكوني، بالتأكيد، ليس هو موسوليني ولا يمتلك لغة ملحّة على الحرب، وتكفي رؤيته وهو يحرك يديه أثناء عزف النشيد الوطني الإيطالي كي يعرف المرء أيّ شخصية مثيرة ومسلية أمامه، إضافةً إلى مغامراته الجنسية وانزلاقات خطاباته.
ويرى الفيلسوف الإيطالي موريزيو فيراريس أن أحاديث برلوسكوني الجنسية لم تصدم سوى قلّة من ناخبيه، الذين يحتفظون له بصورة مُكوَّنَة، بِصَبر، من شخصية خيالية أو أسطورية، تنجز أحلام القوة. كما أن إنجازاته الجنسية تشهد، لدى ناخبيه، على حيوية جذابة فيما الاتهامات التي تُوجَّهُ إليه تشهد على أخلاقية مغلوطة. يحدث هذا الأمر في بلد تصل فيه نسبة النساء (ربات البيوت) إلى 55 في المئة، وهي نسبة لم تتغير منذ خمس سنوات.
تحتل إيطاليا المرتبة الـ74 عالميّاً في مجال حقوق المرأة، ويسهم في هذه الحال الاستخدام المثير للغثيان للتلفزيون، الذي يتحكم برلوسكوني شخصيّاً في معظم قنواته. ولأن سطوته على الإعلام بهذه القوة، لم تثر جمله المثيرة الكثير من الردود الغاضبة والمنتقدة، إذ إنّها تُنسى بسرعة. فجواباً على سؤال بخصوص تزايد اغتصاب النساء في إيطاليا، قال برلوسكوني: «ليس لدينا ما يكفي من الجنود لمنع الأمر. ثم إن نساءنا جميلات جداً».
ولا يبدو أنّ الرأي العام الإيطالي أصيب بالصدمة من أخبار برلوسكوني الجنسية، بل بالعكس يتسلى بها. وحدها زوجة برلوسكوني، فيرونيكا لاريو، من أصيبت في صميم ذاتها، فطلبت الطلاق وحصلت عليه، مؤكّدة أن زوجها يعاشر «قاصرات»، وأنه «رجل مريض».
نصح برلوسكوني الشباب الإيطاليين العازبين بأن يتزوجوا وفق المعايير المالية. ويقول، بعد طلاقه، «أنا إنسان لطيف، وثري جداً (...). تقول الفتيات: إنه عجوز وثري، وسوف يموت قريباً ويمكن أن نرث مجموع ثروته».
الجميع في إيطاليا لا يتحدث سوى عن لعبة «بونغا بونغا» الإيروسية، التي تقول المومس المغربية روبي (كريمة) التي تعرّف إليها برلوسكوني وهي لا تزال قاصراً ودفع لها في غضون ثلاثة أشهر ما يعادل 150 ألف يورو، إنها لعبة تعلّمها رئيس الوزراء الإيطالي من صديقه الليبي معمر القذافي، الذي يمارسها مع «حريمه الأفريقي».

أين المعارضة؟

يعدّ برلوسكوني مثالاً للزعيم السياسي الإيطالي الذي يعود بسرعة إلى السلطة بعد أن يخسرها، وأحياناً تأتيه منقادة. فقد تولى رئاسة الحكومة الإيطالية ثلاث مرات: الأولى ما بين 1994ـــــ1999 والثانية ما بين 2001ـــــ2006 والثالثة، التي لا يزال من ضمنها، بدأت سنة 2008.
ولعلّ خوف برلوسكوني ليس من أعدائه السياسيين بل من أصدقائه اليمينيّين. فاليسار، الذي كثيراً ما تواطأ معه، يظل عاجزاً ومشتّتاً، وأحياناً لا تبدو المعارضة الحقيقية إلا بين أوساط المثقفين والفنانين وبعض الصحافة والقضاة النزهاء، وهي غير كافية لإحداث التغيير المنشود.
الوضع مختلف في اليمين، فها هي الاستقالات تتزايد من معكسر برلوسكوني، وفي المقام الأول جيافرانكو فيني، وهو فاشيّ تائب، إذ رأى أن برلوسكوني قد تجاوز الحدود في ممارسته للسلطة.
وحين تغيب انتقادات اليسار السياسي، إن بسبب تعدد المشارب، وخصوصاً بعد انهيار الحزب الشيوعي الإيطالي، أحد أهم الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، يتلقّف المثقفون دور الانتقاد ويمارسونه، في إطار دورهم وحدود إمكاناتهم.
يتحدث أحد الفاعلين الثقافيين في إيطاليا عن كوارث حكم برلوسكوني على الثقافة الإيطالية، فيرى أنه مهما كان مصير الكائن وقدَره، فإن الخسائر كبيرة جداً. ويكتب: «حين يسمع برلوسكوني كلمة ثقافة لا يجذب مسدسه بل يجذب لا مُبالاته».
ويُضيف جيراردو ماروتا: «إنها لا مبالاة تجعل تماثيل بومباي (الإيطالية) تتهاوى».
جيرادو ماروتا، 83 سنة، هو شخصية رفيعة المستوى من مدينة نابولي، وتحظى بشعبية كبيرة إلى درجة وضع تمثال له في الحضانات الشهيرة، وهو مؤسس ومنشّط المعهد الإيطالي للدراسات الفلسفية، وهي مؤسسة خاصة متفرّدة ذات إشعاع عالمي، تنظّم، من دون كلل، ندوات علمية، يحرص على حضور أعمالها الكثير من حائزي جائزة نوبل والكثير من المفكرين، بينهم جاك ديريدا وبول ريكور ونادين غورديمر.
ويستعد الرجل العجوز لتنظيم ندوة تحت عنوان: «بومباي، رمز الانحطاط الثقافي لأوروبا»، وهو ينتقد الحكومة الإيطالية «التي تُدمّر، عن جهل تام، المدرسة والثقافة وتهدم الآثار».
يقترب برلوسكوني من باب الخروج، وهو شخصياً اعترف بذلك، بسبب العمر، ولكن هل سيمثّل هذا الخروج هواءً جديداً منعشاً على الساحة السياسية الإيطالية؟
يعود الفيلسوف الإيطالي موريزيو فيراري إلى القول: «سيكون الأمر شيئاً من التفاؤل. برلوسكوني ليس عَرَضاً. إنه دفع إلى حد الكاريكاتير، نزوع أصيل يُلغّم الديموقراطيات الغربية. يبدو الأمر، مع برلوسكوني، كما لو أنّ ما بعد الحداثة، التي دعا إليها المفكران الفرنسيان جيل دولوز وفيليكس غاتاري، تحولت إلى كابوس».
ويتدخل العالم الألسني الإيطالي «رافائيل سيمون، صاحب كتاب «هل يميل الغرب يميناً؟ (غاليمار)» ليؤكد أنّ منهج برلوسكوني سيستمر في إيطاليا حتى بعد رحيل صاحبه.
إنّ قدرة برلوسكوني على المناورة كبيرة جداً، فحين يتصوره الناس ساقطاً لا محالة يعود، كما لو أنه عنقاء جديدة، تأبى أن تموت.
ولقد استطاع برلوسكوني إنقاذ رأسه ومكانه. وهكذا بعد سنتين ونصف سنة، استطاع الإفلات من التصويت على حجب الثقة، وكانت النتيجة صعبة، لكنه أنقذ رأسه بفارق ثلاثة أصوات. ويبدو أنه تعوّد وأتقن إنقاذ رأسه في كل مرة، وبعد كل اتهام. وقد اتهمت صحيفة «يونيتا» اليسارية برلوسكوني، وساعده الأيمن جيافرانكو فيني، بالتسبّب في اغتيال القاضيين فالكوني وبورشيلينو، وأيضاً بالضلوع في مجازر 1993.
وعلى خلاف التلفزيون الإيطالي، العمومي والخاص، فإن الصحافة، «يونيتا» و«لاروبوبليكا» و«ستامبا»، لم تتخلَّ عن التحقيق في الفضائح وفي ضلوع المافيا، في جريمة اغتيال القاضيين الإيطاليين، اللذين أصبحا أيقونتَين وطنيتَين يبجّلهما الإيطاليون على اختلاف مشاربهم السياسية.
كثير من الاعترافات التي قدّمها التائبون تتحدث عن علاقات وثيقة بين المافيا الإيطالية وحزب برلوسكوني، وكيف أن المافيا قررت التصويت له في الانتخابات، مقابل تدابير عفو عن قادتها، ومنح غطاء لأنشطتها الاقتصادية، لكنّ القضاء الإيطالي لم يُعر هذه الشهادات كبير أهمية. كما أنه لا أحد يعرف، حتّى الساعة، إن كان لدى القضاة عناصر اتهامية لإجراء محاكمة.
إيطاليا تعيش الآن، بفضل صحافة التحري والبحث، فترة شبيهة بالفترة السابقة التي شهدت وحدة بين القضاء والصحافة انتهت إلى تفكيك العديد من الشبكات المافيوية، لكن، كما جرى القول، سابقاً، فإن التغيير الحقيقي لا يمكن (ولا ينبغي) أن يأتي إلا من المعارضة السياسية، لكنّ المعارضة، كما الشأن، في فرنسا، ضعيفة وتنخرها التنافسات والصراعات بين الأشخاص، ولم تستطع أن تقدم برنامجاً جدّيّاً يمكن الشعب الإيطالي أن يميزه عن التدابير الحكومية القاسية. فأبشر بطول سلامة يا برلوسكوني.

صداقة للعرب وولاء لإسرائيل

حين حضر برلوسكوني ضيفاً على القمة العربية الأخيرة في آذار الماضي، وكان الزعيم الغربي الوحيد، وبحضور قادة عرب مهمّين، لم يجد سوى النوم ملاذاً، من الضجر. وقد سبق له أن غطّ في النوم في اجتماعات دولية، لكنه أضاف إلى هذه الصورة المضحكة التي تلقّفتها وسائل الإعلام، صورة أخرى وهو يُقبِّل يد الزعيم الليبي معمر القذافي، التي عدّها الكثيرون إهانة ما بعدها إهانة، لكنه في الوقت نفسه اقترح على إسرائيل أن يكون أفضل حلفائها في أوروبا.
يبدو لمن لا يعرف برلوسكوني أنه شخصية متناقضة، فيما يعرف هو جيداً ما يفعله. فإذا كان بعض القادة العرب يعترفون بصداقته، فهو لا يفوّت فرصة تمر إلا ينتقد فيها الإسلام والمسلمين (من دون أن نسمع منهم انتقاداً أو حتى عتاباً)، ويدافع عن حق إسرائيل الأبدي في فلسطين، ومن هنا فنكاته الرخيصة عن الدوتشي وعن الفوهرر لا تثير غضب الإسرائيليين واليهود، لأنهم يعرفون أنه صديق حميم، كما أن «صداقاته» مع زعماء عرب، وبينهم معمر القذافي، لا تثير ريبة الولايات المتحدة، لأنها تعرف، أنّ الزعيم الليبي «تعقّل»، كما أنه يمكن دائماً الاعتماد على إيطاليا كحليف صادق، وقد جربّت الأمر في مواقع عديدة، كالعراق وأفغانستان.


برودي واليسار


يعدّ رومانو برودي من أهم الشخصيات اليسارية الإيطالية في الفترة الأخيرة. وقد بدأ نشاطه السياسي عضواً في الحزب الإيطالي للديموقراطية المسيحية، قبل أن يصل إلى رئاسة الحكومة عام 1996، بعد الانتصار الانتخابي لتحالف يمين الوسط. ولم يَطل به المقام في الحكومة حتى أُطيح، في انقلاب داخلي، وتولى السلطة من بعده الشيوعي ماسيمو داليما، وهو ما دفع به إلى تولي رئاسة المفوضية الأوروبية من أيلول 1999 حتى تشرين الثاني 2004.
لكنّ الشجن الإيطالي لم يغب عن هذا الثعلب السياسي، ففي تشرين الأول 2005 نجح برودي في أن يصبح زعيماً لليسار بعد انتخابات 2006. وفي تلك الفترة، دخل برودي في صراعات مفتوحة مع الكنيسة القوية في إيطاليا، بسبب تأييده لزواج المثليين، وهو ما حرمه بعض الدعم، وأسهم في سقوطه، ما دفعه إلى تقديم استقالته في 24 كانون الثاني 2008، معلناً، انسحابه من الحياة السياسية.