لم تكن الزيارة التي أجراها الرئيس التركي عبد الله غول لدياربكر، أمس، وتستمر حتى اليوم، الأولى له لعقر دار أكراد تركيا. إلا أنها كانت، لا شكّ، من أهم مبادرات التهدئة التي قام بها تجاه ما يناهز 20 في المئة من مواطني دولته. زيارة كان الرئيس يعرف للغاية حساسيتها في ظل توتر بات قريب الانفجار إثر قرار الأكراد تجاوز الخطوط الحمر المفروضة منذ قرون على قضيتهم، وهو ما تُرجم بطرحهم أعلى سقف مطالبهم: «استقلال ذاتي كونفدرالي ديموقراطي»، وفرض شرعية اللغة الكردية عبر الأمر الواقع. لذلك، سعى غول، قبل توجهه إلى دياربكر، إلى خفض سقف التوقعات المنتظرة من زيارته، لعلمه بتعقيدات القضية، وأنه لا يملك حلاً سحرياً للقضية التي تُعَدّ من أكثر الأزمات تعقيداً في تاريخ المنطقة والعالم ربما، وخصوصاً بعدما صدر التهديد الرسمي الأكبر، أول من أمس، من مجلس الأمن القومي، ومن خلفه الجيش وما يمثّله من أحزاب معارضة وحاكمة، عن أنّ الدولة التركية «غير قابلة للتقسيم» ولغتها واحدة وحيدة. هكذا، ارتأى غول الالتفاف على المشكلة، متسلِّحاً بوضعيته رئيساً للجمهورية، أي رجلاً قادراً على قول ما لا يرغب فيه بالضرورة حزبه (السابق لأن الرئيس يستقيل من حزبه فور توليه الرئاسة) «العدالة والتنمية»، ومسؤولاً مضطراً إلى معالجة أي أزمة تواجه بلده، أضف إلى استثماره وضعيته الشخصية التي تحظى باحترام جميع أطياف المجتمع التركي. من هنا، فإنّ كلمات التهدئة التي من المتوقَّع أن يطلقها من دياربكر، لن تضعه بمواجهة مع العسكر ومع مناهضي الأكراد، بما أنّ صلاحيات الرئيس محدودة من جهة، أي إن أيّ كلمة ينطق بها الرئيس لن تلزمه قانونياً ولا دستورياً، بل إنها ستُسهم في تجميد التوتر على الأقل.
وتتضمّن زيارة غول برنامج عمل مكثَّفاً، أبرز محطاته ستكون موعدين: لقاؤه برئيس بلدية دياربكر، القيادي في الحزب «الشرعي» لأكراد تركيا (السلام والديموقراطية) الذي يواجه خطر الحظر، عثمان بيدمير. وللاجتماع المذكور أهمية كبيرة. أولاً لأنّ بيدمير أحد «صقور» أكراد تركيا ممن له جولات قضائية دائمة مع خلفاء أتاتورك. وثانياً لأنّه سبق لغول أن اختار بيدمير شخصياً قبل عامين ليتحداه في عقر داره عندما زار دياربكر فور انتخابه رئيساً، موجهاً كلامه له بما معناه «سآتي برئيس بلدية من حزب العدالة والتنمية مكانك في الانتخابات المحلية المقبلة». حلم لم يتحقق على كل حال، إذ إن الأكراد جددوا الثقة بقياداتهم في استحقاق ربيع 2009، موقعين خسارة كبيرة بالحزب الحاكم الحالم بحجز صدارة التمثيل السياسي حتى في مناطق الأكراد. من هنا، فإنّ مجرّد لقاء غول ـــــ بيدمير، في مكتب الأخير، سيكون من شأنه تهدئة خواطر الأكراد قليلاً.
أما الموعد الثاني المنتظر فسيكون ظهور الرئيس على شاشة القناة الكردية من التلفزيون التركي الحكومي، trt-ses، عشية رأس السنة، حيث سيحاوره مدير المحطة فتح الله كيرشان، ويُتوَقَّع أن ينطق الرئيس خلالها ببعض العبارات الكردية، وهو ما سيكون، إن حصل، سابقة تاريخية تتجاوز قيمتها السياسية أهميتها «اللغوية». وعبد الله غول خبير بإمرار الرسائل «الألسنية»؛ فهو، قبل أقل من عامين، دخل التاريخ التركي الحديث باستخدامه مصطلح «إقليم كردستان العراق». عندها فجّر مفاجأة كبيرة، لأنها كانت المرة الأولى التي يستعمل فيها مسؤولاً تركياً بهذه المكانة مصطلح «كردستان العراق» بدل العبارة الرسمية المعتمدة في حينها، أي «حكومة إقليم شمال العراق». ومذ ذاك فقط، بات استخدام المصطلح الجديد أمراً طبيعياً في تركيا، حتى وصلت المصالحة إلى ما بلغته اليوم من «غرام» لم يكن ممكناً تخيّله قبل سنتين فقط.
هكذا، يرى بعض المتفائلين أن استعماله بعض الكلمات الكردية في رسالة معايدة الأتراك بمناسبة رأس السنة، قيمة رمزية قد تفتح ثغرة مهمة في جدار السجال الممنوع عن تشريع اللغة الكردية إلى جانب التركية في بلاد مصطفى كمال.
ورغم كل هذه الأجواء المتفائلة بحذر، هناك من يسخر من مجرد التفكير بالأمل، بدليل الحكم الصادر، أمس، بالسجن 138 عاماً بحق رئيسة تحرير الصحيفة الكردية «استقلال الوطن الأم»، أمينة دمير، بتهمة «الترويج وبث الدعاية لمنظمة إرهابية»، هي طبعاً «حزب العمال الكردستاني».