Strong>البرازيليون ينتخبون رئيسةً لاستكمال حقبة لولاكان فشل ديلما روسيف سيمثل ـــــ لو حصل ـــــ انتكاسة لليسار الأميركي الجنوبي؛ لأن البرازيل بحجمها الاقتصادي والديموغرافي دائماً هي القدوة. وانتصار روسيف تكريس للتداول في السلطة ـــــ بعكس ما يعتقد معارضوها ـــــ لأنه لم يجعل من التغيير الحاصل في حقبة سلفها الرئيس إيغناسيو لولا دا سيلفا، مجرد استثناء يعود من بعده محترفو السلطة إلى مواقعهم التقليدية كأن شيئاً لم يكن. بعد التشيلي والأوروغواي، يمثل فوز ديلما تراكماً في تجربة عرفت كيفية الاستمرار في السلطة من دون تأبيد قيادتها، كما يحصل مثلاً في فنزويلا. وقوة الدرس البرازيلي أن من أعطاه هو لولا، أحد أهم قادة القرن الحادي والعشرين، والشخصية التي غيّرت تاريخ البرازيل

بول الأشقر
في نهاية ستينيات القرن الماضي، عندما دخلت الفائزة برئاسة البرازيل ديلما روسيف في إحدى الشِّلل الطلابية الماركسية اللينينية التي كانت تمارس الكفاح المسلّح ضد النظام العسكري، كان الرئيس الحالي لويس إيغناسيو لولا دا سيلفا، يستغل فرصة الظهور في المعمل ليلعب كرة القدم ويتحاشى الخوض في المواضيع السياسية التي كان يكرهها. وديلما ابنة مهاجر شيوعي ترك عائلته في بلغاريا ليبني حياة رجل أعمال جديدة في البرازيل. هي من مواليد ميناس جرايس عام 1947. عندما اعتقلت «فانيا» (اسم ديلما روسيف الحركي) في بداية السبعينيات، وعُذِّبت تعذيباً بربرياً، كان لولا قد دخل العمل النقابي من دون أن يكون قد تسيّس بعد.
لكن ديلما عقب السجن أكملت دراستها الجامعية لتنتقل إلى ريو غراندي دو سول، جنوب البرازيل ومسقط رأس أبي ابنتها. مع عودة التعددية الحزبية في البرازيل عام 1979، انضمت إلى الحزب الديموقراطي العمالي (حزب الزعيم التاريخي ليونيل بريزولا) النافذ في الجنوب. أما على مستوى العمل الوظيفي، فقد عُيِّنت روسيف مسؤولة المالية في بلدية بورتو أليغري، ومن ثم وزيرة الطاقة في حكومة الولاية، وائتلف حزبها مع حزب الشغيلة. بيد أن بريزولا أراد أن يفك التحالف مع حزب الشغيلة الذي ينمو كل يوم على حساب حزبه الشخصاني، فاستقالت ديلما وانضمت إلى حزب الشغيلة عام 2001.
مهما يكن، في الشلة أو في السجن أو في الجامعة أو في البلدية أو الحاكمية، تتميز ديلما بجديتها العملية وبتعلقها باقتناعاتها. وهي أدواتها لكي تتفوق في العالم الذكوري: إنها الأصغر في الشلة، لكنها المسؤولة عن التموين والتأمين. إنها أول امرأة تتسلم حقيبة المال في بلدية كبيرة، وأول وزيرة طاقة في ولاية، وهي الدخيلة على حزب الشغيلة تفرض نفسها بكفاءتها وبإنجازاتها في وسط يتقن الكلام أكثر من الأفعال.
بعد وصوله إلى السلطة عام 2002، دعاها لولا الذي لا يعرفها إلا سطحياً لتسلم حقيبة الطاقة والمناجم في وزارة سياسية ينسقها رئيس حزب الشغيلة، معاون لولا الأول، جوزي ديرساو، منذ سنوات. ويقاسمه النفوذ الطبيب الذي صار وزير المال، أنطونيو بالوتشي.
قبل 15 شهراً من انتخابات عام 2006، أجبر ديرساو على الاستقالة، وبعد 9 أشهر، أتى دور بالوتشي. كاد الملك لولا يتعرى، وأخذ يخشى تعطّل ماكينة الدولة ستة أشهر قبل الانتخابات. ثم دعا لولا ديلما لتحل محل ديرساو في أهم ثاني حقيبة في النظام الرئاسي البرازيلي، وزارة شؤون الرئاسة، التي هي حقيبة التنسيق بين الوزارات في غياب صورة رئيس الوزراء.
بعدما كانت أول برازيلية شغلت وزارة الطاقة، صارت ديلما الأولى التي تشغل حقيبة شؤون الرئاسة. نجح لولا في تجديد ولايته، وصارت روسيف خلال 5 سنوات معاونته الأولى. هنا اكتشف «قساوتها» في المحاسبة، و«عنادها» لإنجاز المتفق عليه و«صلابتها» أمام الظروف غير المواتية. وبدأ يفكر من دون مفاتحة أحد بإمكان ترشيحها للرئاسة.
بعد سنوات لولا الأولى التي سمحت بترتيب شؤون البيت (كانت ديلما آنذاك مسؤولة عن ترتيب شؤون الكهرباء والطاقة)، حان وقت الإسراع بالزرع وبالحصاد: أُطلق «برنامج تسريع النمو» (باك) الذي قدمته في أول أشهر الولاية الثانية عام 2007، ودخلت البرازيل حقبة النمو السريع عندما فاجأتها الأزمة الاقتصادية العالمية. وصمد البلد أمام الزلزال أفضل من غيره، ومثّل برنامج الـ«باك» القائم على استثمارات ضخمة في البنى التحتية واقياً يسمح للبرازيل، كما يقول لولا، بأن تكون «آخر دولة دخلت الأزمة وأول دولة خرجت منها».
ولولا «عمّد» روسيف بلقب «أم الباك» وأخذ يصطحبها في جميع جولاته الداخلية ويعرّف الناس إليها ويتحدث عن مزاياها. مهمة لولا شبه مستحيلة: ديلما غير معروفة وطنياً ولم تخض في حياتها أي منافسة انتخابية والطامحون كثر إن داخل حزب الشغيلة أو في صفوف الأحزاب الحليفة، وكلهم محترفون. هذه مكونات الطبخة ولم يبق إلا أن «يتحول الليمون إلى ليموناضة»، كما يقال في البرازيل. وبدأت ديلما تستعد لتحديها الأصعب، وكانت «تتتلمذ» على يدي لولا عندما اكتشفت في بداية عام 2009 أنها مصابة بداء السرطان، وكاد بنيان لولا ينهار مجدداً. إلا أن المرض والتغلب عليه تحولا بدورهما إلى دليل إضافي على قدرة ديلما في مواجهة الصعاب.
قبل ستة أشهر، استقالت من الوزارة كما ينص القانون. الظروف صارت مواتية لاستراتيجية الاستفتاء ـــــ المقارنة بين إنجازات ولايتيه وإنجازات سلفه المعارض ـــــ التي يراهن عليها لولا، وحيث دور ديلما أن تمثل «كفاءة الاستمرارية»، مقابل كفاءة سيرا «التي تريد العودة إلى عهد قد ولّى».
صحيح أنه من دون لولا، ما كانت روسيف لتصل إلى الرئاسة، إلا أن الآتي بعد شهرين هو حقبة ديلما. حقبة هي بالتأكيد نتاج «لولية الدولة» أكثر من «لولية الحزب»، مع أن ديلما مسيّسة أكثر من لولا. من الآن وصاعداً، ستكون مجبرة على شق طريق جديد لأن النموذج «اللولي» الأصيل لا يتقنه غير الذي وضعه: ستستفيد بالتأكيد من كل الذي تعرفه ومن كل ما أدارته في حقبة لولا، لكن سيكون عليها أيضاً معالجة الثُّغَر التي عجز لولا عن مواجهتها أو فضّل تحاشيها مثل تطهير الدولة من الفساد والقيام بإصلاح ضرائبي، وليس من المبالغة القول إنها أكثر أهلية من سلفها للقيام بتلك المهمات.
في الأساس، خيار لولا ليس خياراً «نِسوياً» بل خيار الحاجة، ومع مرور الوقت تحول إلى الخيار الأمثل. أول من أمس، فازت ديلما بين الرجال بفارق مريح وتعادلت بين النساء. وكيف يكون الوضع بعد 4 سنوات؟ بعد الرقم القياسي العالمي بالأصوات الذي حققته امرأة ـــــ أصبحت جدّة قبل أسابيع ـــــ من المستحسن التريث، وخصوصاً أن الناتج البرازيلي سينتقل في حقبة ديلما من المرتبة الثامنة عالمياً إلى المرتبة الخامسة.


قوة المعارضة في الولايات

نجح الرئيس لويس إيغناسيو لولا دا سيلفا في رهانه الانتخابي، ونجحت ديلما روسيف بـ56 في المئة من الأصوات، فيما حصل جوزي سيرا على 44 في المئة. وتفوقت ديلما التي حصلت على أكثر من 55 مليون صوت على سيرا بفارق تخطى 12 مليون صوت. فاز سيرا في كل ولايات الجنوب، وتقدم بأكثر من مليون صوت، وفازت ديلما في كل ولايات شمال شرق البرازيل ـــــ ربع الناخبين ـــــ وتقدمت بأكثر من 10 ملايين صوت. وكانت النتائج متقاربة في المنطقتين الباقيتين، في الجنوب الشرقي حيث يقطن 45 في المئة من الناخبين، نالت ديلما 22،5 مليون مقابل 21 مليوناً لسيرا، وعوضت ديلما في ميناس جرايس وريو دي جانيرو ما خسرته في سان باولو. أما في الوسط الغربي والشمال، فتتقدم سيرا بمئة ألف صوت في الولايات الزراعية، فيما تقدمت ديلما بمليون صوت في الأمازون. على هامش الانتخابات الرئاسية، جرت أول من أمس الدورة الثانية لحاكميات ثماني ولايات، وحققت المعارضة نتائج أفضل من التي حصلت عليها في انتخابات الكونغرس حيث سيكون لديلما بعكس لولا أكثرية مريحة في المجلسين. للحقيقة، سيكون وزن المعارضة في الولايات حيث ستتحكم بـ10 ولايات من أصل 27 يعيش فيها 52 في المئة من سكان البرازيل، ومن بينها أغنى وأكبر ولايتين (سان باولو وميناس جرايس).