بدت طهران من نافذة الطائرة، في الساعة التاسعة ليلاً، متناسقة بهندسة شوارعها ومبانيها، مشعّة بأضوائها التي لا تنطفئ، مزدانة بنوافير مياهها العالية التي تحاكي جبالاً تحيط بالمدينة المكتظّة مثل أمّ حنون. هنا قد يصبح الحديث عن العقوبات الدولية ضرباً من الخيال لولا ملاحظة تأثر الشارع بلسعة الحصار وتداعيات الاضطرابات الداخلية التي لا تزال آثارها واضحة
طهران ــ معمر عطوي
حين تطأ أقدامك أرض مطار الإمام الخميني في طهران، تستقبلك الأزهار والنباتات الطبيعية والاصطناعية من كل جانب. منظر الخضرة هنا هو أحد أهم عناصر المشهد في وريثة الإمبراطورية الفارسية. منظر لا يشغلك عمّا تعيشه إيران من ضغوط وعقوبات ومحاولات دولية لعزلها بسبب برنامجها النووي الذي تصرّ على سلميّته، فيما يصرّ الغرب على ترسيخ هاجس عسكرته.
صورة الحصار الدولي سرعان ما تبدأ بالتراجع أمام حركة الأسواق والشوارع بالتوازي مع حراك سياسي دبلوماسي يُشعرك بمدى القطيعة مع ما يُحاك خارج الحدود من مؤامرات لزعزعة الدولة ـــــ الثورة. ثمة لامبالاة بكل ما يُفرض من عقوبات لليّ ذراع هذه الجمهورية التي تتسلّح بعقيدة دينية. ثمة كبرياء لدى القادة والشعب معاً أمام كل محاولات إجبار هذا البلد المثير للجدل على التخلي عن حقّه بامتلاك الطاقة النووية السلمية، «القطار الذي لن يتوقف». برنامج يبدأ بإيتاء ثماره خلال أشهر قليلة حين ينتج مفاعل بوشهر النووي (جنوب البلاد) نحو ألف ميغاواط من الطاقة الكهربائية.
مفارقات الخيال والواقع تبدأ بالتجلّي لحظة الوصول الى المطار، حيث بان ضعف التنسيق بين المؤسسات؛ موفد وزارة الثقافة الموكل باستقبال الوفد اللبناني المشارك في معرض وسائل الإعلام الدولي، لم يستطع تأمين استثناء للدخول من دون جلبة، فطال الانتظار على شبابيك الأمن العام، وتوسّعت دائرة تذمّر المشاركين. هنا لم تمنع جمالية المشهد الديكوري في صالات المطار، من ظهور الامتعاض على وجوه أعضاء الوفد اللبناني المدعو إلى المشاركة في المعرض الذي أُقيم في مصلّى الإمام الخميني بشمال العاصمة طهران. مشهد الامتعاض تكرّر أيضاً، أمام موظفي الفندق الفخم ومنسّقي إقامة «الضيوف» الآتين من مختلف أنحاء العالم للمشاركة في المعرض. ضعف تنظيم لا يتلاءم بتاتاً مع «عظمة» بلد وصلت صواريخه الى الفضاء واقتحم لتوّه النادي النووي.
بيد أن حسن الضيافة والقلب الواسع في استيعاب نقد بعض التدابير وآليات التنظيم، يخفف من غلواء الامتعاض. لعلها سياسة طول النفس التي يتحلّى بها الإيرانيون في تعاطيهم مع الآخرين.
صحافيون من كل الطوائف والتوجهات، وسائل إعلام متعددة، وإن غلبت عليها شريحة تابعة لمحور «الممانعة». بعض الفتيات المرافقات، تحوّلن فجأة قبل هبوط الطائرة في المطار الى أخريات، إذ أرخين على رؤوسهن مناديل للتماهي مع النظام السائد.
ويمكن الزائر التمييز بين من ترتدي الحجاب عن قناعة عقائدية راسخة وبين من ترتديه استجابة لحالة اجتماعية ولما تقتضيه متطلبات النظام. ثمة شريحة تكسر لديك الصورة النمطية عن المجتمع المحافظ، من خلال أسلوب حياة يتماهى تماماً مع الصيحات الغربية. يبدو الحجاب في إيران لدى بعض الفتيات موضة أكثر منه تمسكاً بواجب ديني، فالتبرّج الظاهر على وجوه الفتيات وتلك الرقعة الصغيرة التي لا تكفي لتغطية كامل الشعر يشيان بواقع صعب ومعقّد لا يمكن سوقه بقوة «العقيدة».
أمّا الحديث عن جمال نساء إيران ومستوياتهن الثقافية، فقد لا تتسع له عجالة. وقد يصح القول: في هذا البلد، الذي تغطيه الغابات والحدائق، تتوافر بامتياز المياه والخضرة والوجه الحسن.
الناس رغم عدم إلمام الكثيرين باللغات الأجنبية، لطيفون ومتعاونون بما توافر من وسائل تخاطب وتواصل. يسارعون إلى إرشاد التائه أو العثور على كلمة مناسبة للتعبير، بكل ما أوتوا من قوة شرح.
أما سائقو سيارات الأجرة ـــــ على الأقل من رافقنا في تنقلاتنا ـــــ فلم يبدُ عليهم طمع بسائح دسم، بل كانوا يقبلون بمنطق المساومة في خفض الأجرة، من دون أي تذمّر. وللسائقين قصة أخرى مع البنزين، الذي أصبح متاحاً أكثر مع تطوير مصافي تكرير النفط؛ كانت إيران، البلد الرابع من حيث إنتاج النفط في العالم، تستورد منذ أسابيع قليلة أكثر من 40 في المئة من حاجاتها من البنزين المكرر. لكن في الأسابيع الأخيرة، يبدو أنها وصلت الى مرحلة قريبة من الاستغناء عن الاستيراد، حسبما يفيد أحد المقيمين في العاصمة الإيرانية.
«كأننا في دمشق»، هتف أحد الزملاء أثناء انتقالنا بالحافلة الى جامعة الإمام الصادق، سيارات الأجرة الصفراء، عبق المدينة، الأسواق المقفلة؛ مثل «الحميدية» الجبل المواجه يشبه «قاسيون». تشابه كبير بين المدينتين، ربما كان الأمر مجرد تخيّل بسبب طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين سوريا وإيران.
الشارع الإيراني مُسيّس بامتياز. فرغم كل الأحداث التي شهدتها البلاد إثر إعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد، وما رافقها من تشكيك بالنتائج وتظاهرات ومواجهات تبعتها اعتقالات ومحاكمات، لا يزال بعض الإيرانيين يعبّرون عن امتعاضهم من سياسة الحكومة الحالية. صورة الامتعاض هذه بدأت من صالة الانتظار (ترانزيت) في مطار الدوحة، حيث كان أحد الإيرانيين المقيمين في الخارج واضحاً في انتقاد الرئيس نجاد وسياسته الاقتصادية التي «رفعت نسبة التضخم وزادت البطالة».
للحديث هذا صلة تتواصل في شوارع ومحال شمال طهران الغني حيث تتجمع البورجوازية الإيرانية المعروفة بتوجهاتها المعارضة، خلافاًً للجنوب الفقير الموالي بأكثريته الساحقة للنظام. هنا، في شمال العاصمة الإيرانية، لا يخشى العديد من المواطنين التعبير عن آرائهم بنجاد الذي «يعادي الغرب بخطابه الاستفزازي»، بينما يرى أحدهم أن الزعيم المعارض مير حسين موسوي لن يكون بخلاف نجاد في فرض نظام إسلامي محافظ على الناس و«مصادرة حريتهم باسم الدين». تقول إحدى السيدات «ما نفع التقييد سوى زيادة عدد مدمني المخدرات ليصل الى أكثر من مليوني مدمن»، تقاطعها رفيقتها لتقول «كل شيء موجود في إيران. المنع أصبح شيئاً مضحكاً في عصر الإنترنت». بيد أن أحد الشباب ينبري ليعبّر عن تعجّبه من اتهام إيران بالتخلف والتضييق على الحريات، مقارناً بين بلده والسعودية بالقول «لدينا سينما ومسرح وفنون وزواج منقطع وتطورات تقنية هائلة وصناعة رائدة، ماذا لديهم في دول الخليج سوى التمسك بالتقاليد البدوية وتقليد الغرب في آن؟». نظرة استعلائية فارسية لها جذورها التاريخية التي عززها تخلّف العرب عن ركب الحضارة في العصر الحديث، وزادت من حدّتها حرب شنها العراق على إيران، في عهد الرئيس صدام حسين بين عامي 1980- 1988.
الفوارق الطبقية تبدو واضحة، نسبياً، بين شمال طهران الراقي الحافل بحركة إعمار ومظاهر رفاهية وأسلوب حياة غربي ممزوج بروحية المعارضة للحكومة، وبين جنوب فقير محافظ يتماهى تماماً مع تعاليم ولاية الفقيه ويسلّم أموره الى الحكومة «المهدوية».
فوارق لا تمنع معظم سكان المدينة بضفتيها، الشمالية والجنوبية، من نسج علاقة عشق مع الشعب اللبناني، ولا سيما الجنوبي منه، حيث يبادرونك دائماً حين يعرفون أنك من لبنان بالقول «أنتم من بلد حزب الله»... «كيف حال السيد نصر الله؟». ثمة حماسة ظاهرة للزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الإيراني الى بيروت، حيث لا تزال مدار أحاديث بين منتقد لتوزيع أموال النفط على اللبنانيين، وآخر مفتخر بدعم المقاومة و«الطبقة المحرومة» من الشيعة في لبنان.
يمتعض سائح أوروبي بشدة حين يقطع الشارع، وسط خطر الموت المحيط من جراء عدم توقف السيارات عند الإشارة الحمراء. يتساءل كيف يمكن دولة تنتج صواريخ باليستية وأقماراً اصطناعية أن تكون ضعيفة في مسألة تنظيم السير. يعلّق أحد المارة «ينبغي إنزال الحرس الثوري لتنظيم حركة السير بدل الشرطة المتقاعسة».
البضائع الأميركية والأوروبية متوافرة رغم الحصار، ولا قيود على بيعها. بيد أن أسعارها أغلى بقليل من دول الجوار. أمّا لوازم المعيشة فيبدو أنها لا تزال في حدود الممكن، فالثورة حققت بعض طموحاتها على طريق الاكتفاء الذاتي. لكن المثير في الأمر أن مطعم الفندق لم يقدم للوفود الإعلامية سوى شراب الكوكا كولا، يؤكد عامل المطعم أنه «لا وجود للبن ولا للعصير ضمن برنامج الضيافة». المفارقة أن الكولا هي رمز الشيطان الأكبر.
صورة الإرادة في تحقيق الاكتفاء الذاتي تتجلّى في العديد من القطاعات؛ معظم السيارات التي تسير في شوارع طهران هي من صنع إيراني، مثل «سورن» و«سمند» إضافة الى نماذج إيرانية من سيارات «بيجو» و«رينو» الفرنسية.
التقنيات الحديثة، ولا سيما على مستوى وسائل الاتصال، تظهر جليّة خلال جولة على مجمّع الإذاعة والتلفزيون في شمال طهران، حيث قنوات العالم والكوثر وإيران الرسمية والإذاعات الناطقة بالفارسية والعربية والكردية والطورانية والأذرية وغيرها.
ولبازار طهران حكاية أخرى لا تنتهي فصولها في أسطر. هنا يدرك الزائر أهمية البازار في تشكيل المشهد السياسي. تجار هذا السوق الضخم لديهم نفوذهم داخل الحوزة كما داخل أروقة الحكم.
في البازار تجد كل ما تشتهي نفسك من سلع ومأكولات وهدايا ومعدّات صناعية وأجهزة كهربائية وسجاد عجمي منسوج بعناية وكافيار فاخر وفستق وزعفران. قائمة لا تنتهي من السلع التي تؤكد أن البلاد تسير بعناد لتحقيق طموحاتها، رغم العقوبات والحصار.
مفارقات عجيبة في بلاد فارس، حيث الاحتفاظ بطقوس وتقاليد تبدو أحياناً كثيرة منافية للمنطق، وبين ظواهر تقدميّة تحاكي العصر الحديث بتقنياته المتطورة. وفي أي حال، تبقى رائحة النفط بعيدة عن عبق الشارع الذي يعيش لحظات انتظار ما بعد الحصار.


قوميّات

لا يمكن الحديث عن شعب ذي لون واحد في إيران الذي يتخذ هوية فارسية ومذهباً شيعياً اثني عشرياً رسمياً للدولة يوجّه آفاق مستقبلها وحركتها السياسية والاجتماعية بتعاليم «مقدّسة». ثمة قوميات عديدة في إيران التي يتجاوز عدد سكانها 74 مليون نسمة. أعراق مختلفة معظمها من الفرس، إلى جانب الأكراد والتركمان والبلوش والأرمن والعرب وغيرهم.
أمّا دينياً، فرغم أن معظم السكان يتبعون للمذهب الشيعي الاثني عشري (89 في المئة)، وهو المذهب الرسمي للدولة، هناك نسبة من المسلمين السنّة، إلى جانب أقليات دينية أخرى، منها اليهود والمسيحيون والبهائيون والمندائيون والزرداشتيون. كما أن هذا البلد الذي تتجاوز مساحته مليوناً وستمئة ألف كيلومتر مربع، يحتضن أكثر من 110 لغات، أبرزها الفارسية والأذرية والكردية والعربية والبلوشية والعبرانية والأرمنية والمندائية والبختارية، وغيرها من اللغات غير المعروفة.