جنديّ مثاليّ فضح سلوك الكاوبوي الأميركي «ويكيليكس». فلا وكالة الاستخبارات الروسية ولا الصينية، ولا أي عدوّ خارجي استطاع أن يفضح الإدارة الأميركية بهذه الدرجة ويهدّد «أمنها القومي» وصداقاتها مع عالَم كانت تعدّه، ولا تزال، موجوداً في خدمتها وتحت حذائها. بالتأكيد لن يستطيع الجندي، الذي كان مغموراً، أن يزعزع الأمن الأميركي، لكنه قد يدفع بعض الساسة، من أصدقاء واشنطن، إلى التفكير والتريث، بنحو مسبق، في نوع من رقابة ذاتية، قبل الإقدام على تصريح ما. بمعنى أن التلقائية والشعور بالأمان، لم يعودا قائمين

بشير البكر
إذا كان الأوسترالي جوليان اسانج، صاحب موقع «ويكيليكس» الإلكتروني ،الذي بدأ بنشر أسرار وفضائح السياسة الأميركية وغيرها، هو الذي يثير الرعب، فإن هذا الشخص يحتاج إلى أناس ظلّ لا تقل أهميتهم عنه، ولا عن مسؤوليته المعلنة، سواء كانوا مصادر معلومات أو تقنيين أذكياء يمكنهم التحايل على خبراء استخبارات ودفاع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصديقة.
ومن بين هؤلاء، جنود الظل، يبرز برادلي مانينغ، الجاسوس المعتقل بتهمة بتسريب المعلومات لموقع و«يكيليكس»، والذي قد يتعرض لحكم بالسجن لمدة 52 سنة.
وكان لهذا الجندي الشاب (23 سنة)، الذي خدم في الجيش الأميركي في العراق، الفضل في إظهار الأسرار إلى العلن، وإيصالها للجمهور العريض،. برادلي مانينغ، المتهم بتحويل ربع مليون مراسلة قصيرة إلى موقع «ويكليكس»، كان قد عمل في وحدة المعلومات في الجيش الأميركي، وهو ما جعله على علاقة مباشرة بهذه الأسرار. وهي عبارة عن خزّان حقيقي، يتبادل فيه العسكريون والدبلوماسيون الأميركيون المعلومات. وربما ساهم غضب الجندي من المؤسسة العسكرية الأميركية، ومعاناته الطويلة في الاندماج بهذا الجيش، في نقمته وفي رغبته بتوجيه ضربة للمؤسسة. فهذا الشاب المثليّ، اضطر إلى إخفاء حالته التي كانت ستقذف به بعيداً عن الجيش الأميركي «النظيف»، ومن هنا انزوى لمزيد من العزلة، في بيئة تستلزم التلاحم، وكان يقضي جل وقته في تقديم القهوة إلى الضباط.
وجاء اهتمامه بالإنترنت والشبكات الاجتماعية والمنتديات ليخفف قليلاً من عزلته، ما جعله يلتقي مع أدريان لامو، وهو «هاكر» (قرصان معلوماتية) سابق، معروف بنجاحه في اقتحام شبكات مايكروسوفت وياهو.
وفي ربيع سنة 2010 بدأ التحول الكبير في مسار مانينغ، الذي اعترف بإنجازه نسخاً عن وثائق سرية، عثر عليها في قاعدة البيانات التي يستطيع الوصول إليها. ثم بدأ بنشر رسائل في المجلة الأميركية «وايرد»، ثم اعترف بتسليمه 260 ألف وثيقة عن الدبلوماسية الأميركية لجوليان اسانج، صاحب الموقع الشهير. وكانت بداية الضربات للصدقية الأميركية في نشر شريط مصوّر لطائرة هيلوكبتر أميركية وهي تطلق النار على المدنيين والصحافيين في بغدادوبالنسبة إلى شخص في عمر هذا الجندي، فقد امتلك وعياً حاداً ومبكراً في وقت كان جنود وضباط أميركيون آخرون يرتكبون فيه أكبر جرائم التعذيب والإهانة في التاريخ في سجن «أبو غريب». ولا يتورع مانينغ عن كشف أسباب «خيانته» لمؤسسة الجيش الأميركي، فيقول في إحدى مراسلاته: «رأيتُ صفقات سياسية تقترب من الجريمة (...). رأيتُ أشياء لا تُصدَّق، وفظيعة، يجب أن يطّلع عليها الجمهور، وألّا تظل مرتّبة في قبو في واشنطن. (...) ستصاب هيلاري كلينتون وآلاف من الدبلوماسيين في العالم بالنوبة القلبية حين يستيقظون ذات صباح ويكتشفون سجلّاً كاملاً من وثائق سرية عن السياسة الخارجية في متناول جمهور عريض، وبمحرك بحث».
ولأن النملة يمكنها أحياناً أن تقتل الفيل، أو أن تتسبب، على الأقل، في إيذائه، فها هو برادلي مانينغ يكشف لأدريان لامو عن الحالة الرثة لنظام الحفاظ على سريّة المعلومات الأميركية: «السيرفر ضعيف وكلمات السر ضعيفة وأمن ماديّ ضعيف، ومكافحة التجسس ضعيفة، إلخ...». ويورد الجندي كيف أنه يَلِج قاعة المعلومات، ويمسح الموسيقى عن القرص المدمج الذي يحمله ويخلق ملفات مضغوطة، وهو يدندن بالموسيقى. ويقول «كنت أدندن بموسيقى لإدي غاغا، وأنا أنفّذ أكبر تسريبات في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية». العناية الربانية كانت معه، وهو يفسرها: «لم يَشُكَّ أحدٌ في الأمر».
لكن لكل شيء نهاية، وإلا لكانت معطيات إضافية حصلت قبل فترات قليلة وجدت طريقها إلى جمهور العالَم المُعوْلم المتعطش. نهاية كانت عندما أفشى أدريان لامو (الذي لا يُصدق أن صديقه تصرّف وحده في هذا الإنجاز الخارق للعادة)، الخائف من متابعات القضاء الأميركي، هويّة المسرّب إلى الشرطة، ليُعتقل برادلي مانينغ في بغداد يوم 26 أيار الماضي، ثم ينقل الى سجن في الكويت، وبعدها إلى الولايات المتحدة.
ورغم أنه لن تكون هناك نتائج كبيرة جداً لهذه التسريبات، كما يقول الباحث باسكال بونيفاس، فهيبة الأميركيين، حتى وإن تضررت لبعض الوقت، وفي غياب قوى عالمية نديّة، سرعان ما تعود إلى الواجهة، ويعود العالَم إلى التقرب من واشنطن، «إنْ رَغَباً وإنْ رَهَباً».
ارتفع الشاب الصغير، ذو الوجه البريء (الشجاع والمِثاليّ، في نظر الكثيرين) إلى مصاف البطل في عيون الحركات السلمية الأميركية، وأيضاً في نظر المدافعين عن انترنت حر. والكثير من المنظمات الأميركية تطالب حكومتها بألا تصْرِف النظر عما هو أساسي، وأن تنتهز الفرصة لمناقشة موضوع الاحتلال الأميركي لأفغانستان، وترى في تصرف الجندي الأمريكي إثارة لـ«يقظة» الشعب الأميركي.
طاقم هيلاري كلينتون اتصل، مسبقاً، بنظرائه الأجانب، مُطفئاً النار قبل اشتعالها. أما في ما يخص الرأي العام العالمي، الذي عُرِض أمامه المطبخ الدبلوماسي، فإنه سينسى، في غضون أشهر، كل التوصيفات التي يطلقها الأميركيون على هذا المسؤول أو ذاك.
السرّ، من الآن فصاعداً، غيرُ مضمون. بفضل الانترنت ـــــ والسرية التي يمنحها لمستخدميه ـــــ كُشف كل شيء في بضعة أيام، وحصل الأمر على الرغم من عملية تأمين شديدة للمعطيات. لن تنتظر الفضائح ثلاثين سنة قبل أن تنفجر. وما على الدبلوماسية إلا أن تتكيف مع الأمر، والخارجية الأميركية تشتغل على الأمر منذ شهور. لكن من المستبعد أن يؤثّر كل هذا في العلاقات ما بين الدول. و«يكيليكس» لن تغير تصوُّرَ العالَم في شيء.


باسكال بونيفاس

يرى الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس، أن وصف تسريبات ويكيليكس بـ «11 ايلول» مُبالَغ فيه كثيراً. فالرسائل القصيرة المنشورة قبل كل شيء هي إشارات داخلية تعكس التبادلات بين القادة السياسيين أو مبعوثيهم، ومن المنطقي أن يكون ثمة إحراجٌ.
ويقول إنه ليس مفاجئاً وصف موقع ويكيليكس لإدارة باراك أوباما بأنها باردة مع نظيراتها الأوروبية. فمنذ 2008 لاحَظَ العديد من المراقبين أن أوباما ليس لديه إحساس أوروبي، خلافاً لمن سبقه من رؤساء أميركيين. وهذا يعود لأسباب عديدة. أوروبا، بوصفها قارة، أصبحت رهاناً استراتيجياً ثانوياً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. الصين والهند أصبحتا شريكتين اقتصاديتين لهما الأولوية، بينما العالَم ينقسم إلى أقطاب. وبخصوص بعض الاعترافات التي خرجت من بين معطيات «ويكيليكس»، مثل الإشارات إلى شبكة تجسس في طهران، فإن بونيفاس يرى أن «كشف وجود مصادر تعمل لمصلحة واشنطن في إيران ليس سراً في حد ذاته. ومبادرة ويكيليكس في هذا الاتجاه يمكن أن تكون خطيرة، من جهة كشف الجواسيس. فمثلاً حين يُحكى عن «رجل أعمال» من آسيا الوسطى يزور إيران باستمرار، فهذا يُمكّن الاستخبارات الإيرانية من حصر مجال بحثها».