strong>33 بطلاً لأمّة تشيلي لكلّ منهم سرّهاستمرّ الإفراج عن العمال الـ33 العالقين في منجمهم في التشيلي، أكثر بقليل من 22 ساعة متواصلة، علماً أنه كان من المتوقع أن تطول العملية أكثر. آخر من خرج من الحفرة هو المسعف مانويل غونزاليس، أول المسعفين الأربعة الذين نزلوا لملاقاة العمال وللمساعدة في عملية انتشالهم. هذا المنجم سيقفَل، وسيُفكك المعسكر الذي بُني حوله للقيام بأعمال التنقيب ولإنشاء المركز الطبي ولاستقبال «جيش» المسؤولين والصحافيين. تبقى المشاهد عالقة في عيون التشيليين والمليار مشاهد الذين تابعوا عمليات الإنقاذ من كل العالم. أما المشاعر المحفورة في أذهان العمال، وتعايشهم مع تجربة الدفن، فقد تخرج الآن على نمطها الخاص رويداً رويداً

بول الأشقر
رغم تشوّقهم للخروج من منجمهم بعد 69 يوماً، لم يشأ أي من عمال المنجم التشيلي العالقين على عمق نحو700 متر، أن يكون أول الصاعدين إلى سطح الأرض، لئلا يخطف الأضواء من زملائه، ما فرض أن يؤخَذ القرار بالتصويت بين الزملاء العالقين. أولاً يصعد الأكثر مهارة لتصويب الآلية، ومن بعده الأضعف صحة، وأخيراً الأقوى والأصلب جسدياً. ربما من أجل ذلك، انتظر فلورنسيو أفالوس، وهو معلم ورشة دوره في الملجأ. العامل الكهربائي ماريو سيبوفيلدا، وهو الذي شغل دور الناطق الرسمي باسم المجموعة في الملجأ، تحوّل إلى نجم الإعلام: ما أن سلَّم على زوجته والمسؤولين، وقد أهدى لهم حجارة اتى بها من المنجم، حتى أخذ يركض فجأة بحثاً عن أصدقائه. وما أن وجدهم حتى تحوّل إلى هتّاف ليردد جميع الحاضرين شعار المنتخب الكروي التشيلي، الذي تحول إلى شعار كان يطلقه الجمهور كلما أدرك أحد العمال الحرية «تشي تشي تشي لي لي لي... تشيلي». ويشبه اتحاد التشيليين حول عمالهم، الالتفاف الذي حصل قبل أشهر حول منتخب التشيلي المشارك في كأس العالم لكرة القدم. أصلاً، كرة القدم لم تكن يوماً غائبة عن عالم المناجم؛ ففي تسعينات القرن الماضي، كانت فرق كوبريلوا وكوبريسال التي يمولها قطاع المناجم من أشهر الفرق الكروية التشيلية. وما أن اكتُشف مكان العمال، حتى أُرسلت إليهم شرائط مباريات كرة القدم للترفيه عنهم. وما أن عُرفت هوية الفرق التي يشجعها العمال، حتى بدأت تصلهم قمصان موقعة من لاعبي فرقهم المحبَّبة، وقد خرج عدد منهم وهم يرتدون هذه القمصان. وتبيّن أنهم يتوزعون بين أشهر فريقين تشيليين: «كولو كولو» (20 عاملاً) و«أونيفرسيداد تشيلي» (11 عاملاً). وقرّر إداريو هذا النادي تقديم تذاكر لحضور مباريات فريقهم مدى الحياة لمشجعيهم العمال.
ومن بين العمال العالقين، 5 لاعبين قدامى، بينهم فرانكلين لوبوس الذي لعب مع المنتخب خلال فترة قصيرة في الثمانينات، قبل أن يبدأ بالعمل في المناجم سائق شاحنات بعد اعتزاله الكرة المستديرة. وما أن خرج إلى الهواء، حتى سلّمته زوجته كرة وقّعها زملاؤه في اللعب، فبدأ يداعبها بقدمه أمام الكاميرات على الفور.

ما يجمع بين فوق وتحت

أظهر التواصل الذي توفره التقنيات الحديثة كم أن الصدف، فضلاً عن العلاقات العاطفية، تربط بين «عالم فوق وعالم تحت»: فيما كان العالم الفوقي يحبس أنفاسه لمعرفة مصير العمال، كان العالم الدوني يعاني الشعور نفسه لمعرفة مصير 3 أو 4 من زملائهم كانوا على مستوى الانهيار، ورأوهم للمرة الأخيرة يهربون على الأدراج فيما كان السرداب ينهار. أول اتصال بين العالمين ترك الطرفين مطمئنَّين.
لم يكن دوام عمل إستيبان روخاس في 5 آب، يوم انهيار المنجم. إلا أنه نزل إلى المنجم لأن زميله اضطرّ للتغيّب بسبب عزاء عائلي. أما راوول بوستوس، فهو عامل ميكانيكي من جنوب البلاد، كان يعمل في مرفأ حتى وقوع زلزال شهر شباط الماضي. وعند حصول الانهيار، كان قد أنهى دوامه، إلا أنه بقي في المنجم للانتهاء من صيانة إحدى الشاحنات المعطلة. وعدد من العمال سبق أن بقوا عالقين في الانهيارات غير النادرة التي لا تزال تحدث في هذه المهنة الخطرة، إلا أن فترات اعتقالهم لم تتخطَّ ولا مرة فترة الأسبوع، ومن بينهم عمر ريغاداس الذي عاش هذه المرة «اعتقاله» الرابع في منجم. أما فترة الـ69 يوماً التي قضوها «تحت»، فكانت كافية ليتعرف أرييل تيكونا إلى ابنته إسبيرانزا (يعني أمل بالعربية) التي وُلدت خلال غيابه، وليكتشف فيكتور زامورا أن زوجته حامل.
أما والدة ريتشار فيلاريول، فقد علمت أن ابنها يعمل في منجم عند حصول الانهيار. 69 يوماً كانت كافية لكي يقترح استيباس باريوس على صديقته الزواج بعدما عاشا معاً ربع قرن، ولهما 3 أولاد، وكي يوجّه كلوديو أكونيا، الذي احتفل بعيد ولادته في الملجأ، رسالة مماثلة إلى خطيبته بعد علاقة دامت 6 سنوات. 69 يوماً وجد خلالها أحد «المسجونين» وقتاً كافياً كي يطلب أحدهم من زوجته أن تتزوجه ثانية، لأننا «الآن ولدنا مرة ثانية». إلا أن الـ69 يوماً نفسها لم تغير شيئاً في حياة ياني باريوس العاطفية؛ فالرجل كانت تنتظره عشيقته. أما زوجته، فقد فضلت أن تشاهد خروجه عن بعد، واكتفت بالتعليق: «كان لائقاً أن تنتظره (العشيقة) في المنزل... أنا سعيدة له وإذا أكمل حياته مع امرأة أخرى، فأتمنى له السعادة».

بين الأمانة والذاكرة

آخر من خرج من الحفرة هو لويس أورزوا، القائد الحقيقي للمجموعة، وقد تحول بذلك إلى صاحب الرقم القياسي لمن بقي «مقبوراً حياً». هو آخر من خرج لأن القبطان هو دائماً آخر من يغادر السفينة. لويس، صاحب السنوات الـ54، كان المسؤول عن العمليات في المنجم عند حصول الانهيار، وقد اختاره زملاؤه ليقود المجموعة خلال كل هذا الوقت. ابن شيوعي من مفقودي ديكتاتورية أوغيستو بينوشيه، حضر مع والدته دفن والده بالتبنّي الذي كان أيضاً اشتراكياً اغتالته الديكتاتورية نفسها. ولدى خروجه من الحفرة، توجه إلى وزير المعادن وقال له: «أسلّمك الأمانة»، قبل أن يضيف «لا تسمح بأن يحدث شيئاً مماثلاً مرة أخرى»، وهو شعار منظمات حقوق الإنسان بالنسبة للديكتاتوريات العسكرية.
تدريجياً، ستخرج القصص من تحت الأرض ومن ذاكرة العمال الـ33 الذين جمعهم المصير وتقاسموا الجوع خلال أسبوعين، قبل أن يتحدّد موقعهم، ويتحولوا إلى أبطال أمّة تريد أن تنبعث من جديد. وبالفعل، بدأ فيكتور سيغوفيا كتابة يومياته ما أن تسلم الأوراق والأقلام التي كان قد طلبها. كتابه وذكريات الآخرين ستكون مادة أفلام وروايات أخرى في ما أصبح الآن ملحمة شعب.


«بيننيرا وجد منجماً من ذهب»

خرج آخر العمال العالقين، والرئيس سيباستيان بينييرا يتكلم للمرة الأخيرة لصحافيي العالم: «اليوم، بعد 69 يوماً، لم تعد التشيلي الدولة نفسها التي كانت من قبل. أشعر بدعم جميع التشيليين. البلد أقوى وأكثر وحدة وأكثر احتراماً من أي وقت مضى. أنا فخور بأن الامتياز أُعطي لي، والمسؤولية لأترأس جميع التشيليين».
يعرف بينييرا، الذي سيطير بعد ساعات إلى جولة أوروبية، أن اهتمام العالم به سيكون مغايراً للاهتمام الذي كان سيلقاه لولا وقوع حادث الانهيار وملحمة الإنقاذ. وصل باكراً نهار الثلاثاء مع زوجته، وظلّا هناك حتى النهاية. وكلما طلّ وجه من تحت الارض، انتظر بتواضع أن يسلّم على أهله وعلى طاقم الإنقاذ قبل أن يتقدم ويشكره، كما يفعل قائد الأوركسترا أو مخرج الفيلم، وهو يعلم أن مجده مضمون. «وجد بينييرا منجماً من الذهب وبدأ يستغلّه»، يقول بقساوة أحد منتقديه: «حوّلنا إلى مشاهدين في فيلم هو بطله، لم يعد أحد يناقش ظروف العمل ولا ضريبة الموارد المنجمية، فكيف بالأحرى حقوق الهنود المابوش... كلها كانت قضايا حامية قبل بداية الفيلم، وكلها حبلى بمآس، وستمر أشهر طويلة قبل أن تعود إلى الواجهة».