عمّال محطّات التكرير يدخلون المعركة... والحكومة تلجأ إلى الأمنباريس ــ بسّام الطيارة
رويداً رويداً تمرَّر بنود قانون إصلاح نظام التقاعد في مجلس الشيوخ. ورويداً رويداً تتوسع حركات التنديد بهذا القانون. كلما مر الوقت ازدادت قناعة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بأنه يكفي الصمود قليلاً لمرور العاصفة. وكلما ذهبت الحكومة في اتجاه تجاهل الحملة المتصاعدة ضد قانون يغيّر وجه «نظام العمل الفرنسي»، انضمت إلى العمال والمضربين شرائح جديدة، لتؤكد ما تنشره وكالات استطلاع الرأي من أن ثلاثة أرباع الفرنسيين يؤيدون المضربين. ومع إعلان «تنظيم تظاهرات مليونية جديدة» اليوم، والدعوة إلى يوم تحرك الثلاثاء المقبل يزداد القلق. إلا أن ما يواجه ساركوزي واليمين والنقابات، وحتى أحزاب المعارضة، هو إيجاد منفذ للخروج من نفق المأزق الذي دخله الجميع ويتعاركون في ظلمته من دون أن يظهر حتى الآن ضوء باب المخرج في الأفق.
الجديد يتمثّل في أن وجه التحرك المناوئ بدأ يميل نحو الشرائح المتصلبة في التحركات النقابية، منها نقابات صناعة تكرير النفط، بحيث توقفت ١١ مصفاة من أصل ١٢، وبدأ الحديث يدور حول استعمال المخزون الاحتياطي. أضف إلى هذا أن المخاوف من تحرك الطلبة قد تحققت، وبدأت دائرة الإضراب في المعاهد تتسع، تشوبها «احتكاكات مع الشرطة» بعنف متصاعد ذهب ضحيته أحد الطلبة أمس بطلقة «فلاش بول» في عينه، وهي الكرات المطاطية التي تطلقها شرطة محاربة الشغب، التي نزلت بقوة في مواجهة تحركات الطلبة.
ومن المنتظر أن تزيد المجابهات بين الشرطة والطلبة من حدة المواجهات في الأيام المقبلة. وقد اتهم أحد النقابيين قوات الأمن بالنزول لمواجهة الطلبة وهي «مدججة بالسلاح والبدلات الواقية من الرصاص كأنها ذاهبة إلى أفغانستان». ووصفت صحيفة «ليبراسيون» اليسارية مشاركة الطلبة بأنها «جددت شباب التظاهرات»، فيما عنونت صحيفة «لوبارزيان» الشعبية «حجم حركة الطلاب يتزايد»، ووصفت لسان حال الطلبة بأنهم يريدون إبراز «أنهم موجودون».
أيضاً أسعار الوقود ترتفع، ليس فقط في فرنسا بل في أوروبا أيضاً، بسبب توقف محطات التكرير، الذي تزامن مع توقف أكبر محطة تكرير لشركة «شل» في روتردام لأسباب فنية.
الحكومة سمحت باستعمال «مقنّن للاحتياطي الخاص» من الوقود لدعم تجمعات صناعية كبرى
وطالب موزعو المواد المكررة السلطات بـ«طرد المتظاهرين» وبإنزال الجيش والإفراج عن الاحتياطيّ الاستراتيجي، وهي خطوة تتردد كثيراً حكومة ساركوزي قبل اللجوء إليها خوفاً من الاعتراف بخطورة الوضع وقوة الممانعة للقوانين التي تسنها. إلا أن الحكومة سمحت باستعمال «مقنّن للاحتياطيّ الخاص» لدعم تجمعات صناعية كبرى، بينما تتردد في استعمال الاحتياطيّ الاستراتيجي الأوروبي (١٧ مليون طن) الذي يقاسمها إدارته الاتحاد الأوروبي. وقد اكتفى وزير الطاقة دومينيك بوسيرو بالطلب من السائقين المحافظة على هدوئهم وعاداتهم الاستهلاكية، وعدم «اللجوء إلى تخزين البنزين».
إلا أن تسريبات أفادت أن من الممكن تقنين البيع بدءاً من يوم الأربعاء المقبل، ولا سيما مع توقع انخفاض الحرارة مع موجة صقيع آتية، ما دفع الحكومة إلى الحسم، وأعادت قوات الأمن مدعومة بنحو ٥٠ مؤللة فتح مستودع «فوس سور مير» قرب مارسيليا (جنوب) وانتشرت الفرق الأمنية في الموقع لضمان أمنه، وسمحت لنحو ٣٠ صهريجاً بالدخول للتزود بالوقود.
وقد أعلن مصدر نقابي أن النقابات أعطت تعليمات «بعدم المواجهة» بسبب النتائج الكارثية التي يمكن أن تحصل إذا اندلعت مواجهات مع قوات الأمن بين الخزانات. واتهم الحكومة «بالمزيد من القمع بدل من التفاوض».
أما في ما يتعلق بالطلبة، فلم يتردد أكثر من معلّق في المقارنة بثورة أيار 1968، حين أجبر الطلبة الجنرال شارل ديغول على التراجع.
بالطبع يدرك الحكم والمعارضة أنّ نزول الشباب إلى الساحة سوف يفتح ملفات كثيرة، وأولها مسألة البطالة، وهي التي تقف وراء شعارات الطلبة، الذين يرون في «إطالة فترة عمل الكبار إقفال فرص عمل للصغار» من دون أن يكون وراء ذلك أي «حل علمي لتراكم ديون الضمان الاجتماعي».
من هنا بدأت فكرة فرض ضرائب على أرباح «العمل الريعي» تشق طريقها إلى ساحة التداول، حتى في أوساط اليمين. إذ إن التقدم الصناعي والتحول في نوعية الصناعة الفرنسية وتغريب المصانع الكبرى جعلت جميعها من الصعب جداً بناء نمو على القيمة المضافة الصناعية، وبات النمو مبيناً فقط على «المردود الريعي» (استثمارات مالية وإيرادات صناديق الاستثمارات) الذي لا يخضع لأيّ ضريبة اجتماعية. ومن هنا الحديث عن ضريبة قيمة مضافة (vat) اجتماعية تستهدف أرباح البورصة وفوائد الرساميل المجمدة. وقد بدأ ساركوزي يفتح الباب أمام إمكان تطبيق هذا التحول الضرائبي من دون أن يبدو كأنه ينفذ أحد أهم بنود برنامج غريمته سيغولين رويال. ومن هنا يبدو قلق قاطن الإليزيه من هذا التحول في النزاع الذي بدأ يأخذ منحىً سياسياً، حيث تُظهر الأمور كأنه يتراجع في تطبيق وعوده الانتخابية بينما خرجت الإضرابات من عقالها وبدأ التراشق السياسي بين يمين ويسار يعبّد طريق معركة طويلة يمكن أن تقود إلى الانتخابات الرئاسية، إلا أن ربط هذا النزاع، وصور ملايين المحتجين في الشوارع، بحملة ساركوزي الانتخابية هو آخر ما يمكن أن يقبله اليمين في محاولة منه للاحتفاظ بالحكم.


سجلت المرشحة الاشتراكية السابقة سيغولين رويال، التي نافست نيكولا ساركوزي في انتخابات الرئاسة الماضية، عودة قوية إلى واجهة الأحداث، بدعوتها الطلبة إلى «النزول إلى الشارع» وإن هي عادت للتصريح بأنه «لا يجوز إعطاء أوامر للشباب، فهم يعرفون ما يجب القيام به». وقد انتقد ساركوزي مباشرةً أقوال منافسته السابقة بالتهكم على إقحامها شباباً لا تتجاوز أعمارهم الـ ١٦ عاماً في مسألة التقاعد «التي لن يواجهوها قبل نصف قرن».