حلقة الإضرابات تتّسع: إغلاق 2500 محطة و1200 مدرسة وانضمام عمّال المطار والبريد باريس ــ بسّام الطيارة
«إن هذه النشرة أعدها صحافيون غير مضربين»، هكذا تبدأ هذه الأيام نشرات الأخبار على القنوات الفرنسية وتليها سلسلة أرقام عن عدد محطات الوقود المقفلة وطول مواكب السيارات الزاحفة بحثاً عن نقطة بنزين. الأرقام لم تعد تعني أي شيء في واقع فرنسي يعيش «أخطر أزمة اجتماعية منذ ١٩٩٥»، رغم هذا تنكبّ الصحافة على سرد سلسلتين من الأرقام المتوازيتين لا تلتقيان البتة؛ أرقام النقابات وأرقام الحكومة، لكنها كلها تشير إلى ارتفاع في عدد المضربين وتعداد الطلبة المشاركين وعدد محطات المحروقات المقفلة.
ساركوزي المستفيد الأول من اتجاه التظاهرات نحو العنف
وتلتقي النقابات والحكومة على إصرار كل طرف على عدم التراجع، وبالتالي فإن الوضع معقد لدرجة يصعب معها التنبؤ بما يمكن أن يحصل غداً أو بعد غد، وما إذا كان يمكن وقف زحف الطلبة إلى الشوارع أو سحب التوتر الذي بات ظاهراً في كل طيات المجتمع، عبر عبارات يلقيها المشاة أو المترددون على المقاهي أو الواقفون بين المضربين. يقول معلم مضرب «إن التذمر والثورة في سبيل مطالب محقة أسّسا لفرنسا اليوم». وتقف طالبة في مقتبل العمر وراءه وتخاطب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عبر الميكروفونات: «أنت ترفض الاستماع إلى صوت الشعب»، ويردد وراءها عامل مصفاة جاء من مرسيليا للمشاركة «سوف نذهب بعيداً حتى النصر». وقد جاءت إجابة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من دوفيل، في خضم مؤتمر صحافي مشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الروسي ديمتري مدفيديف، فشدد على أن «واجبه كرئيس للجمهورية الاهتمام بمستقبل نظام التقاعد وإيجاد توازن للهكيلية الأساسية للدول». وطالب الجميع بتحمل مسؤولياتهم، وأشار إلى «حق الفرنسيين في العمل»، رغم تنويهه بحق «البعض في الاعتراض». ووعد بإيجاد «حلول جذرية للمخربين» الذين يندسّون في التظاهرات بغرض التخريب والتعارك مع الشرطة.
وعلمت «الأخبار» أن ساركوزي عاد من دوفيل مباشرة إلى قصر الإليزيه لعقد ثلاثة اجتماعات، كرّس الأول لحل أزمة المحروقات، بعدما أُعلن إقفال ٢٥٠٠ محطة، نصفها في باريس. والثاني أمني متعلق بما يشوب التظاهرات من عنف وتكسير وحرق للسيارات. أما الثالث، فيجمع حوله الوزراء والمستشارين الذين عملوا على قانون التقاعد، الذي «أنزل فرنسا إلى الشارع».
أما على الأرض، فقد اتسعت حلقات المشاركة في الإضراب، بعدما انضم العاملون في المطارات وسكك الحديد والمدرّسون وعمال البريد إلى الشرائح الأولى. وازداد عدد الطلاب المشاركين، بعدما ارتفع عدد المدارس المضربة إلى ١٢٠٠ مدرسة.
ورغم ارتفاع نسبة التململ لدى المواطنين من نقص البنزين واضطرارهم إلى الوقوف في طوابير طويلة للحصول على حد أقصى لا يتجاوز الـ ١٥ ليتراً، مع ارتفاع في الأسعار (نحو ١.٤٠ يورو لليتر البنزين)، فإن غالبية مطلقة (٧٠ في المئة) لا تزال تؤيد المطالب، وترى أن «القانون مجحف بحق الضعفاء». وتؤيد نسبة كبيرة الإضرابات (٥٣ في المئة).
70 في المئة من الشعب تؤيد الإضراب لأنها تنظر إلى المستقبل
ويتوقع الجميع أن تقَّر القوانين في مجلس الشيوخ رغم التعبئة القوية في الشارع، وتعتمد الحكومة على هذا العامل لتراجع الاحتجاجات. وما يلفت الانتباه أنه رغم «وقوف اليمين إلى جانب ساركوزي إبان الأزمة»، فإن بعض الشروخ بدأت تظهر ضمن صفوفه بسبب الأثر الذي يمكن أن تتركه هذه الحركة الاحتجاجية في نفوس المواطنين مع اقتراب الانتخابات. وقد لوحظ تحرك لرئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه (الرجل الثاني في الجمهورية حسب الدستور)، الذي أخّر ليومين إقرار القانون بقبوله «٥٣٠ طلب تعديل» قدمتها المعارضة، عكس ما فعله رئيس الجمعية الوطنية برنار أكويه، الذي رفض أي مناقشة للقوانين، ما حدا بالمعارضة للمطالبة باستقالته.
وتقول النقابات إن إقرار القانون لن يمنعها من المضي قدماً في تحركها، رغم تخوفها من استغلال المشاغبين للتظاهرات لـ«تصفية حساباتهم مع شرطة ساركوزي»، في إشارة إلى المعارك الاحتجاجية التي شهدتها الضواحي عام ٢٠٠٥. وبدأت بعض ألسنة المعارضة تشير إلى أن ساركوزي هو المستفيد الأول من اتجاه التظاهرات نحو العنف، لأن هذا التطور يسمح له باستمالة «الأكثرية الصامتة المؤيدة للقانون والمعارضة للعنف»، والظهور بمظهر «المحافظ على الأمن» من خلال تصميمه على إقرار القانون دون الالتفات إلى الشارع.
سوف يغير قانون التقاعد، إذا لم تتراجع عنه الحكومة كما حصل عامي ١٩٩٥ و٢٠٠٦، عادات فرنسية، إلا أن مناسبة الاحتجاج عليه أدخلت أيضاً جديداً في طريقة القيام بثورة فرنسية بطلها اليوم التواصل الرقمي. فقد شهدت ثورة اليوم تعبئة بواسطة الهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت بطريقة لا سابقة لها، وذلك ليس من حيث توجيه المتظاهرين أو حثهم على المشاركة وتأمين أماكن تجمّع لهم، بل إعلام منظمي الإضرابات والنقابات المواطنين عن محطات الوقود التي تؤمن التموين، وعن ساعات الإفراج عن الشاحنات المحتجزة أو عن نقاط توقيف السير أو قطع الطرق والجسور بطريقة تخفف عنهم وطأة الحركة الإضرابية. ويرى المراقبون أن هذه «الإشراكية» في تدارك آثار الإضراب أسهمت إسهاماً فعّالاً في المحافظة على شعبية التحرك.


لا يكف ساركوزي عن الإشارة إلى التعديلات على قانون التقاعد، للدلالة على «مرونته». ومن التعديلات «استثناء الأمهات اللواتي ربين ثلاثة أولاد» من تمديد سنين العمل. إلا أن حظ الحكومة تعيس، إذ خرجت أمس قصة «شانتال التي ربت ثلاثة أولاد» وترفض الإدارة الاعتراف لها بحقوقها. فالقانون يذكر تربية الأولاد حتى سن السادسة عشرة، إلا أن أحد أولاد شانتال توفي بمرض اللوكيميا قبل شهرين من إتمام عامه السادس عشر، فصرخت الأم متألمة «الحق على ابني الذي توفاه الله باكراً».