إنها إسطنبول التي يعرفها الجزء الأكبر من العالم من خلال معالمها التاريخية. هي المدينة نفسها التي تتعاقب الصحف على نشر عدد السياح الذين يرتادونها عاماً بعد عام. حتى إن القادم إليها قد يُصاب بدهشة حين لا يجد مطارها مكتظّاً. سمتان ليستا بالغريبتين، وقد أصابتا الناس بالملل لتكرارهما في كل مرّة يريد أحدهم الكتابة عن إسطنبول. لكنّ التاريخ ليس العنصر الأبرز في المدينة. بل هو تفاعل هذا التاريخ مع الحاضر والأجيال. هو أيضاً رهبة التاريخ. ملامح شرق أوسطية تتّجه نحو الغربنة بعفوية شعبية وحنكة حكومية. إسطنبول الجديدة ـــ القديمة عرفت كيف تعتاش من ميّزاتها، ومن بائعيها المتجوّلين وصولاً إلى حكامها. وها هي تنضج وتعجّ بالنضارة
إسطنبول ــ ربى أبو عمو
تصل إلى إسطنبول وأنت تعرفُ مسبقاً الأماكن التي يجب أن تزورها. تُدرك أنها مدينة من تاريخٍ تَحوّل إلى حاضرٍ تعتاش منه. هذا ما عرفته ممن سبقوك أو من قراءاتك. لكن لا يعني ذلك أنها لن تدهشك تلك القدرة على إعادة صياغة الماضي، حتى ليبدو من الطراز الحديث.
لم تغفل إسطنبول أهمية التاريخ في صُنع مدينة ذات هيبة. تنظر إلى معالمها في دهشة، وتجذب ملايين السياح سنوياً من كل أنحاء العالم. حتى بيوتها القديمة التي تتعاقب عليها الأجيال، قد تخالها حديثة البناء لكثرة الاعتناء بها وتجديدها الدائم.
عرفت إسطنبول أن استمراريتها رهن تاريخها. باتت تشبه امرأة عجوزاً تخبر أحفادها عن نفسها من خلال ألبومات صور. الفكرة ليست في التاريخ كمخطوطات أو أجسام محنطة، بل في جوهر أسس لإمبراطورية سابقاً ولدولة لها وزنها الإقليمي حاضراً.

رغم امتلاك غالبية الأتراك سياراتهم الخاصة، إلا أنهم يفضّلون التنقل بالوسائل العامة
تحار كيف تُصنّف هذه المدينة. مكانها شرق أوسطي. لكنها لا تشبهه كثيراً إلا في ملامح مواطنيها، وصوت الأذان الذي يصدح بهدوء، حتى ليبدو ممزوجاً بأصوات المدينة. وباستثناء هذه السمات، يظهر واضحاً سعي المدينة إلى الغربنة، هي الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. أبسط دليل على ذلك هو الإحساس بوجود الدولة المتواصل في حياة المواطن التركي، أقله من خلال توفير وسائل النقل العامة، كالترامواي والمترو وحتى السفن في بحر مرمرة التي تنقل المواطنين بين جزءي المدينة الأوروبي والآسيوي. ورغم امتلاك غالبية الأتراك في إسطنبول لسياراتهم الخاصة، إلا أنهم يفضّلون التنقل بالوسائل العامة، بكلفته الرمزية. مميزات تجعلها ترقى للانضمام إلى صف الدول الأوروبية من دون أدنى شك.
هذه المدينة العالقة بين الشرق والغرب، تولّد لديك شعوراً بالغيرة وأنت القادم من العالم الثالث، ولا سيما أنك تلمس تشابهاً بينك وبينها وأهلها.
تسير في إسطنبول برهبة من لا يريد أن يخيب أمله بها. مزيج من مشاعر الغربة والألفة تنتابك في آن. لحظات قليلة، ربما ساعات، حتى تلاحظ خصوصيتها الأوروبية. تمتد في أحيائها البيوت الملونة: أصفر، أحمر، أزرق... جرأة تشعرك بعمق هذه المدينة.
هذه البيوت ترسم على امتدادها لوحة ذات أشكال هندسية مختلفة، تصنع إحدى ميزات إسطنبول، وتقرّبها من العشوائية الأوروبية، أو الجنون الذي يساوي في هذه الحالة القدرة على التعبير عن النفس. هي الرغبة نفسها في الحب. فشوارع إسطنبول وقطارات الأنفاق مليئة بالعشاق. ربما كأي مدينة تصرّ على رسم صورة حضارية ولا تخجل من تعبير مواطنيها عن مشاعرهم ببراءة بعيداً عن شبح الخوف والأخلاق.
الهندسة المعمارية الرائعة تنسحب على قصر طوب كابي وآيا صوفيا (كنيسة تحولت إلى جامع ثم جعلها أتاتورك متحفاً) والجامع الأزرق، حيث تحضر الفلسفة المعمارية والدينية والسياسية. عيون زوارها تبدو مدهوشة وشاخصة إلى ذلك التاريخ. تستحضره فتغوص في زمنه للحظات، ولا يُسكت مخيلتها هذه إلا صوت زر الكاميرا. حتى لتبدو هذه الأماكن وقد أرهقتها كثرة الصور والمصورين.
الحياة في هذه المدينة تسير أسرع من المتوقع. الناس في حركة دائمة. كأنهم يتناوبون على الحركة حتى يتحقق مشهد حركي متواصل يحثّك على تحقيق أمر ما. حركة أقرب إلى الثورة على الروتين، أو ربما الانغماس فيه.

«داون تاون»


لا يخجل المواطنون من التعبير عن مشاعرهم ببراءة بعيداً عن شبح الخوف والأخلاق
تسمع أن شارع الاستقلال في إسطنبول هو بمثابة توأم وسط المدينة في بيروت. لكنك لن تحتاج إلى كثير من الوقت لتكتشف أن المقارنة غير واردة، لا بل مجحفة بحقه. يتّسم الشارع بالازدحام الدائم. في أوقات وجود الطلبة في مدارسهم وجامعاتهم، أو في دوامات العمل. حتى لتظن أن «الاستقلال» يستأجر الناس ليملأوه. هذا الشارع بأبّهته وجماله وفخامته هو ملك الشعب التركي والسياح الذين يحملون حقائبهم على ظهورهم ويحطّون بها أينما حلّوا. هذه هي الصورة التي رسمها لنا أهلنا عن وسط بيروت قبل أن يعاد إعماره، نراها حقيقة في شارع الاستقلال في إسطنبول.
موسيقى تركية تعلو بعض الأحيان فوق ضجيج المتسكعين، فيما يحمل رجل عجوز عوده ويغني قرب أحد المحال، واضعاً قبعة تستجدي النقود إلى جانبه. حرٌّ هو هذا الشارع. لا مكان فيه إلا للمشاة، باستثناء الترامواي القديم الذي يمرّ بين الحين والآخر ناقلاً ركابه.
جميل هو شعورك بأن هذا الشارع يقبلك. لا بل يحبك. أنت كيفما كنت مرحّب بك. صحيح أن المحال الفخمة تنتشر على جانبيه، إلا أنها قبلت أن تجاور محالاً شعبية أيضاً. لم تستح بها، حتى لا يبدو مستغرباً أن تجد مركزاً للحزب الشيوعي التركي في هذا الشارع الأرستقراطي الملامح.

ترامواي

في الترامواي، قد يتكدّس الناس بعضهم فوق بعض كبضاعة الشحن. وهو أمر عادي حين يكون سكان إسطنبول فقط 14 مليون نسمة. لكن هذا الاكتظاظ في مكان واحد وفي لحظة واحدة يرسم صورة مشتركة. كأن يصبح الفرد كلاً. هو نفسه المشهد يتكرر حين ينتظر الناس عبور الشارع عند إضاءة إشارة المرور للمشاة. يقطع هؤلاء الشارع في آن معاً. هي أمور عادية، لكن غيابها اللامنطقي عنك يشعرك بمدى غرابتها أو إعجازها في الوقت نفسه.
هذه هي إسطنبول التي تحتوي كل شيء. سنجد بمحاذاة شوارعها المنتقاة أخرى على غرار شارع «صبرا».
ربما ينقصها فقط صوت فيروز حتى تكتمل صورتها.


اللغة... تركيّة!

أن تجد أحدهم يتكلم الإنكليزية في إسطنبول يعني أنك محظوظ. حتى في أرقى الفنادق، التي يضطر فيها موظف الاستقبال إلى التعاطي مع زوار من مختلف أنحاء العالم، فإن الأمر ليس مضموناً.
البحث يبدأ خارج الفندق. داخل السوق الشعبي الكبير «الغراند بازار» (Grand Bazaar)، الذي يضم عدداً كبيراً من محال الألبسة والأحذية والأكسسوار والتحف وغيرها، يبدو أن التجار حفظوا بعض الكلمات «المفتاح» التي يحتاجون إليها في عملية البيع والشراء.
الأمر نفسه ينسحب على الأماكن السياحية الأخرى مثل طوب كابي وآيا صوفيا وجزيرة الأميرات والبوسوفر، إلا أن القاعدة الأساس هي اعتماد لغة الإشارات.
ومن النادر كذلك أن تجد تركياً يتكلم الإنكليزية أو الفرنسية في الترامواي أو المحال التركية الشعبية المنتشرة على الطرق.