شهد شهر رمضان تغييراً في ردّ فعل هذه «الشريحة الصامتة»باريس ــ بسّام الطيارة
في دراسة لواقع الإسلام اليوم في فرنسا، يعيد المتخصص في الشؤون الإسلامية، باسكال بلانشار، العلاقة التي يصفها بالخاصة بين فرنسا والمسلمين، وخصوصاً في المغرب العربي، إلى مطلع القرن التاسع عشر، وبالتحديد مع بدء استعمار الجزائر عام ١٨٣٠ ورغبتها في وحدة «حضارية لا ثقافية»، واعتبار الإسلام العامل الوحيد الذي يجمع بين شعوب هذه المنطقة، وذلك بخلاف معاملة مسلمي المناطق الأفريقية التي استعمرتها أيضاً.
وقد اندمج التياران في موجات الهجرة المتعاقبة منذ مطلع القرن العشرين، ومشاركة «مسلمي فرنسا في المعارك الحربية»، وخاصةً موجة الهجرة الاقتصادية، استجابةً لطلب اليد العاملة الرخيصة في خضمّ عملية إعادة إعمار وتجديد الآلة الصناعية المنهارة بعد زوال الاحتلال النازي.
وهنا تتحدث الأرقام عن استقدام «ما يزيد على ١٠٠ ألف جزائري سنوياً» لتلبية طلب أرباب العمل. ويلاحظ بلانشار أن المهاجرين آنذاك لم يكونوا مندمجين مع المهاجرين من آفاق أخرى مثل البرتغاليين والإيطاليين، بل كانت بيوت الصفيح المخصصة لهم في الضواحي الصناعية «دائماً على بعد ٢٠ متراً». لكن قبل بدء «سياسة جمع العائلات» لتسهيل حياة المهاجرين، لم يكن وجود المسلم الفرنسي بارزاً، وبالتالي لم يكن «مزعجاً»، إذا استثنينا أعمال جبهة التحرير الجزائرية على الأرض الفرنسية إبّان حرب التحرير.
ولكن وصول «نساء المهاجرين» حوّل صورة الجماعات المهاجرة الإسلامية من «عمال يقدمون قوة عملهم إلى مجموعات سكانية تحاول الذوبان في المجتمع الفرنسي» مع صور لنساء وأطفال قدموا من «الريف الجزائري» ليمثّلوا تناقضاً واضحاً مع صورة المجتمع الفرنسي. وهكذا بدأ الحديث في السبعينيات من القرن الماضي عن «المسألة الإسلامية»، وكان الدافع وراء ارتفاع أسهم اليمين الفرنسي المتطرف ممثلاً بالجبهة الوطنية.
ولكن وراء موجة القلق هذه، غاب عن الصورة وجود مسلمين فرنسيين لا علاقة لهم بالمهاجرين ولا ينتمون إلى تيّارهم الطارئ على المجتمع الفرنسي، دخلوا الإسلام إمّا بسبب احتكاكهم بالمسلمين أو عن قناعة. ورغم غياب تعداد رسمي، بسبب منع القوانين الفرنسية أيّ إحصاء مبني على أساس الدين أو العرق، فإنه حسب عدد من المراقبين يمثّل هؤلاء أكثر من ٣٠ في المئة من تعداد المسلمين في فرنسا، يضاف إليهم عدد لا يستهان به من الأجيال الثالثة من أولاد المهاجرين، الذين لا يبرزون بسبب «ذوبانهم في المجتمع»، وحيث إن عدداً كبيراً منهم «غيّر اسمه» منذ زمن طويل للاندماج ولمحاربة نزعة العنصرية وتسهيل الحصول على فرص عمل.
إلا أن سياسة استهداف المسلمين بطريقة غير مباشرة عبر استهداف المهاجرين، وخصوصاً في ظل «ذهاب نيكولا ساركوزي بعيداً في انتقاد سياسة الهجرة من خمسين سنة» حسب قوله في خطاب غرونوبل الشهير، بدأت تستفز هذه الشرائح. وقد بدأت تعلن معارضتها وتضع انتماءها إلى الطائفة في واجهة معارضتها، بعدما كانت تضع مبدأ الحريات الفردية والعلمانية في إطار اعتراضاتها على طروحات اليمين الفرنسي المتطرف.
وقد شهد المراقبون تغييراً في «ردّ فعل» هذه الشريحة الصامتة على ضوء تصرفها في شهر رمضان. ففيما كان هذا الشهر يمر من دون أي تغيير في تصرفات العديد من أبناء هذه «الطائفة غير المعلنة»، إذ إن عدداً كبيراً منهم كان إما «مؤمناً لا يمارس الشعائر» أو يطبّقها بخصوصية تبقيه بعيداً عن الإعلان عن دينه، فإن هؤلاء بدأوا هذه السنة تحركاً جديداً عبر المشاركة في «حفلات رمضانية» من نوع جديد.
وبالفعل فإن فرنسا عاشت هذه السنة تجمعات رمضانية لم تقتصر على الصائمين، بل أُقيمت حفلات إفطار مفتوحة «للجميع» يشارك فيها مسيحيون وعلمانيون.
وقد حضرت «الأخبار» إحدى هذه الحفلات التي تنظمها «مؤسسة ثقافات الإسلام» في بناء تقدّمه بلدية باريس منذ أربع سنوات لحفلات تدار مثل أي «حفلة علمانية»، ما عدا أن «الأكل حلال ولا توجد مشروبات روحية»، رغم أن الطباخين ليسوا مسلمين لكنهم متخصصون في «صناعة الأكل الحلال».

وصول «نساء المهاجرين» أحدث تحوّلاً في صورة الجماعات المهاجرة الإسلامية

ورداً على سؤال قال أحد الحضور «أنا كاثوليكي لكني هنا لأشارك مواطنيّ المسلمين الإفطار». وقد نوّهت سيدة بأجواء الأخوّة التي تعم الحفل، وبعدما أشارت إلى أن سيدة واحدة من السيدات الست اللواتي يشاركنها طاولتها هي مسلمة قالت إنها «تعرف الكثير من المسلمين الحاضرين هنا»، وأوضحت أن «عدداً كبيراً منهم لا يصرّحون بذلك في الحفلات الاجتماعية الأخرى».
ولا تقتصر هذه الحفلات على الإفطار، بل يوجد حفل فني أو مسرحي ليس بالضرورة «عربي أو إسلامي الطابع». وكانت المغنية الفرنسية، شانتال جيرهال، في عداد الفنانين الذين يقدّمون لوحات خلال هذه الحفلات. كما توجد عروض لرقص الفلامنكو والرقص الحديث.
وصرحت مديرة المؤسسة، فيرونيك ريفيية، للصحافة «إن نصف الحاضرين غير مسلمين». وإن حفلات هذه السنة كان محورها «الإسلام الأوروبي»، بهدف التشديد على أن «هذا الدين متأصّل منذ زمن بعيد في القارة الأوروبية»، بينما أشار رئيس المؤسسة، حكيم القروي، إلى «وجود حالة طارئة تتطلّب تقريب الحضارت اليوم». وشدّد على أن انتشار «الإسلاموفوبيا في الفضاء العام» يقابله ويزيد من حدّته «إسلام متشدد عنيف»، بينما نجد بين هذين التطرفين «مسلمين وغير مسلمين يقتسمون بلح المحبة» في لقاءات مثل هذه.
تبرز هذه الحفلات التي انتشرت هذه السنة في فرنسا الشق الذي يفرّق بين طروحات ساركوزي وحقيقة شعور الفرنسيين المتسامحين أصلاً، وتسهم إسهاماً أساسياً في زيادة عدد المتطرفين، بحيث أقحمت هذه الطروحات في اللاوعي الجماعي للمجتمع الفرنسي بذور انقسام وتأجيج لمشاعر طوائفية لم تكن موجودة قبلاً.