strong>حزب أتاتورك استعاد وضعه زعيماً للمعارضة التركيةاستفاق الأتراك، أمس، على صباحَين متناقضين: سكرة الانتصار للغالبية، وخيبة الخسارة عند الباقين. وبانتهاء فصل التعديلات الدستورية، تكون «المرحلة التاريخية لتركيا الديموقراطية»، على حدّ وصف بطل الاستفتاء، رجب طيب أردوغان، قد فتحت مجالاً للإعداد لاستحقاقات مقبلة سيتفرغ لها فور الانتهاء من تلقّي التهانئ والرد على اتصالات المسؤولين الأجانب والعرب؛ من مفوضية توسيع الاتحاد الأوروبي، التي رأت في التعديل «خطوة على الطريق الصحيح للمسيرة الأوروبية» لتركيا، إلى الرئيس باراك أوباما المعجَب بـ«الحراك الديموقراطي» التركي، وصولاً إلى البرقيات والاتصالات الألمانية والعربية، فهم الجميع أنّ ما بدأ في 12 أيلول سيُتابَع بخطوات كبيرة

أرنست خوري
صحيح أنّ ما حصل في 12 أيلول 2010 في تركيا، هو أهم ما فعله عهد «العدالة والتنمية» منذ وصوله إلى الحكم في 2002 على الصعيد الداخلي الذي له كبير الأثر على موقع تركيا الخارجي ومسيرتها الأوروبية، إلا أنّ الأتراك مجمعون على أن ما هو آتٍ سيكون أعظم. فهذا الآتي سيضرب على الأمكنة الصعبة في تركيا، أي الجبهة الكردية، من خلال إعادة طرح مشروع «الانفتاح الديموقراطي» لتحسين ظروف عيش الأكراد وتمثيلهم السياسي، وعلى المسألة القبرصية التي ستكون إحدى أولويات رجب طيب أردوغان وحزبه في الأشهر المقبلة. كل ذلك تحضيراً للانتخابات التشريعية التي ستحصل بعد أقل من عام، والتي يُرجَّح أن يكون الاستعداد لها قد بدأ بالفعل. وعلى هذه الانتخابات، سيتوقف مصير المشروع الأكبر الذي يُقال إنّه جاهز في دُرج مكتب أردوغان ليطرحه على الاستفتاء الشعبي حين تسنح الفرصة، ألا وهو دستور ديموقراطي نظامه رئاسي جديد بالكامل. وبعدها قد يحين الوقت المناسب لكل شيء بالنسبة إلى أردوغان، من بينها الاستعداد للترشح للرئاسة الأولى.
وأجمعت صحف تركيا والعالم على اعتبار أنّ نتيجة استفتاء 12 أيلول كانت إنجازاً تاريخياً ونصراً لا غبار عليه للحكومة ولحزبها الحاكم ولرئيسهما. كلام لا شك فيه من حيث الأرقام. والأرقام في مثل هذه الحالات هي أهم من كل التحليلات. لكنّ الوقوف عند المحصلة النهائية للنتائج من دون التدقيق فيها قد يُفقد قيمة الأرقام، وعلى الأرجح أن الماكينة النشيطة لـ«العدالة والتنمية» بدأت العمل على استخلاص العبر، منذ صدور النتائج. وهنا لا بد من مجموعة ملاحظات:
ـــــ إنّ موافقة 58 في المئة من المقترعين على مضمون التعديلات الدستورية هي نتيجة جيدة جداً لم تكن ماكينة الحزب الحاكم حتى تتوقع الوصول إليها، بما أنّ آخر استطلاع أجرته قبل 12 أيلول، خلص إلى 57 في المئة من الـ«نعم» في حدّ أقصى. وتمكنت الحملات المؤيدة والمعارِضة للاستفتاء من إنزال نسبة هائلة من الأتراك إلى صناديق الاقتراع وصلت إلى عتبة 78 في المئة، بينما لم يشارك في استفتاء 2007 (على جعل انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة) إلا 67 في المئة. والأكيد أنه لا علاقة للنسبة المرتفعة من المشاركة بواقع أنّ التصويت واجب وليس حقاً في تركيا (مع غرامة لمن لا يصوت تناهز 15 دولاراً). ومن أبرز دلائل الحماسة الشعبية للمشاركة في الاستفتاء، أكان رفضاً أم تأييداً له، أنّ 80 ألف تركي عادوا من مكة حيث كانوا يؤدّون مناسك العمرة، للتصويت، حتى إن نحو 3000 منهم لم يتمكنوا من اللحاق بالصناديق لأنّ الطائرات لم تتمكن من نقل جميع المسافرين.
ونتيجة الـ58 في المئة ممتازة لحزب أردوغان عند مقارنتها بالـ39 في المئة التي حقّقها الحزب في الانتخابات المحلية في العام الماضي، والـ47 في المئة في الانتخابات التشريعية في 2007 (مع الفارق الكبير في معايير التصويت في انتخابات بلدية أو برلمانية من جهة، واستفتاء على تعديل دستوري شديد الأهمية من جهة ثانية).
من هذه الزاوية، تبدو الصورة ممتازة للحكومة ولأردوغان. لكن هناك تفاصيل تقلّص من ورديَّة الصورة. فمن الخطأ اعتبار أنّ الـ23 مليوناً ونصف المليون الذين قالوا نعم للتعديلات، هم جماهير أردوغان وحزبه حصراً. فجزء لا يُستهان به من هؤلاء هم من الأنصار «الخارجين» عن إرادة أحزاب المعارضة التركية والكردية (وإن بنسبة أقل). وقد عرفت الأسابيع السابقة موجة استقالات وإقالات في كوادر حزب المعارضة الأكبر، «الشعب الجمهوري»، على خلفية أنّ رؤساء بلديات ونواباً حتى من حزب مصطفى كمال أيدوا التعديلات الدستورية رغم قرار حزبهم بالتصويت ضده، من دون أن يمنع ذلك القرار مسؤولي هذا الحزب من الاعتراف بأهمية وإيجابية بعض المواد الـ26 التي تضمنها الاستفتاء.
أما على صعيد الحزب المعارض الآخر، «الحركة القومية»، فكان وضعه أسوأ، إذ إنه كان متحمّساً لإلغاء المادة 15 من الدستور التي كانت تحمي مخططي ومنفذي انقلاب 12 أيلول 1980 الذين أطاحوا حكم «الحركة القومية» نفسها في ذاك العام، لكنه بقي معارضاً للتعديل، على اعتبار أنه «يسمح للحزب الحاكم بالسيطرة على القضاء». هي الحجّة نفسها التي رفعها «الشعب الجمهوري» شعاراً له. في النتيجة، لم يتمكن الحزب اليميني المتطرف (الحركة القومية) من السيطرة على جميع مناصريه، وهو ما تُرجم بخسارة عدد من معاقله التاريخية، أبرزها «عثمانية»، مسقط رأس زعيم الحزب دولت بهشلي التي مالت لمعسكر الـ«نعم». في المقابل، تمكن «الشعب الجمهوري» من المحافظة على معاقله، إضافة إلى أنّ الـ42 في المئة الذين قالوا لا حُسبت لمصلحته في الإعلام عموماً. وهذه النتيجة بداية جيدة للزعيم الجديد لهذا الحزب، النائب كمال كليتش دار أوغلو، الذي لم يُسمَح له بالتصويت، لأنه لم يُبلغ اللجنة الانتخابية بتغيير مكان سكنه.
ـــــ كردياً، حقّقت دعوة حزب «السلام والديموقراطية» لمقاطعة الاستفتاء فوزاً كبيراً له. فمحافظات شرق وجنوب شرق الأناضول الخمس، ذات الغالبية الكردية، التزمت المقاطعة بنسبة مقبولة، وإن متفاوتة. ففي هكاري مثلاً، لم يصوّت سوى 6.8 في المئة، بينما شارك 23 في المئة في شيرناك و43 في فان و50 في المئة في ماردين. أما القلعة الكردية، دياربكر، فصوّت فيها 33 في المئة (كانت 52.9 في المئة في استفتاء 2007). بالمحصلة، فإنّ معدل مشاركة الأكراد في هذه المحافظات الخمس بلغت 31 في المئة، 90 في المئة منهم قالوا نعم. وسيكون لهذه النتيجة الجيدة جداً لحزب الأكراد تداعيات ستنعكس على طبيعة العلاقة مع أردوغان وحكومته التي ستكون مضطرة للعودة إلى تلبية بعض مطالب الأكراد، ليقينها بأنّ حزبهم قادر على تجيير أصوات نحو 70 في المئة من الأكراد، البالغ عددهم نحو 14 مليوناً في تركيا، وهي كتلة هائلة عند الحديث عن أي انتخابات كانت.
بالخلاصة، يجمع المراقبون على أنّ المهمة الطارئة التي على أردوغان القيام بها قبل أي استفتاء شعبي جديد، هي طرق الباب الكردي، والسعي إلى محو آثار «المهزلة» التي أدّت إلى تصويت بعض نواب حزبه، عند طرح مشروع التعديلات الدستورية على البرلمان، ضد بعض البنود التي كانت كفيلة بنيل رضى الأكراد، في مقدمتها المادة التي كانت ستحصر حق حظر الأحزب بالبرلمان.


قلاع تسقط

كان لافتاً توزيع الـ«نعم» والـ«لا» على المحافظات التركية الـ 81؛ فقد فاز الاستفتاء في 63 محافظة، في مقابل 18 معارضة. ومن أهم الإشارات السيطرة المطلقة للمعارضة على المدن الساحلية على بحري إيجيه والمتوسط، في مقابل محافظة «العدالة والتنمية» على قاعدته الشعبية الأناضولية، وهو ما تُرجِم بفوز الـ«لا» في محافظة داخلية وحيدة، هي تونسلي (مدينة كمال كليتش دار أوغلو). ونال معسكر الـ«نعم» غالبية في العاصمة أنقرة (54 في المئة) وإسطنبول (55 في المئة) وأرضروم (87 في المئة). وحقق الرئيس عبد الله غول نتيجة مشرفة في مسقط رأسه في قيصري، حيث وافق 73 في المئة على التعديلات، وكذلك حال رجب طيب أردوغان في ريزي. أما إزمير، فقد بقيت قلعة العلمانيين (63.5 في المئة لا)، علماً بأنّ المفاجأة الكبرى حصلت في فوز التعديلات في أوشاق ودنيزلي وعثمانية المعروفة بميولها اليمينية.