اختناق مصرفي «مؤلم» تعانيه طهران لم ينعكس بعد على الشارع الإيراني، حيث الانشغال الأبرز ببوشهر وتشغيله، وبإطلاق السجينة الأميركية. أمّا الموضوع المركزي المثير للجدل في الداخل الإيراني حالياً، فيتعلق بما بات يُعرف بـ«مدرسة مشائي»، وخصوصاً مع انكفاء المعارضة وعودة هاشمي رفسنجاني إلى الحياة السياسية
إيلي شلهوب
مر عيد الفطر في إيران مرور الكرام. أصلاً هي لا تحتفل به كباقي الدول العربية والإسلامية. العطلة يوم واحد ولا أجواء احتفالية ترافقه، خلافاً لما يحصل على سبيل المثال في عيد النوروز. صحيح أن مجموعة من النواب قدمت اقتراحاً بجعل عطلة عيد الفطر ثلاثة أيام، لكنه سرعان ما سُحب من التداول وأرجئ البحث فيه إلى السنة المقبلة، والحجة أن العطل في الجمهورية الإسلامية كثيرة، «أكثر من أي دولة في العالم»، ولا داعي إلى زيادتها.
كذلك حال العقوبات الدولية، التي مرّ عليها نحو أربعة أشهر من دون أن تظهر آثارها على الشارع الإيراني، حيث يؤكد القيمون على السلطة أن البلاد حقّقت الاكتفاء الذاتي من المواد الأساسية، وبينها البنزين، تلك المادة الحيوية التي جرى رفع الدعم عنها ما رفع سعرها وخفض الطلب عليها في موازاة زيادة في إنتاجها. المشكلة الوحيدة، على ما تفيد مصادر وثيقة الاطلاع، في «ما فعلته العقوبات في القنوات المصرفية، حيث شدّت الخناق على النظام المصرفي الإيراني ما يشل الاقتصاد الإيراني، والحركة التجارية فيه على وجه الخصوص. إنه لأمر مؤلم حقاً». وتضيف «هذا هو السبب الذي دفع بالمرشد (علي خامنئي) إلى الحديث عن اقتصاد مقاوم، وتوجيهه النقد إلى نجاد في شأن السياسات الاقتصادية الموازية»، في إشارة إلى محاولات الرئيس محمود أحمدي نجاد حصر النشاط الاقتصادي في الرئاسة التي تقوم بأعمال موازية لأعمال الوزارات، ما يهدّد بهدر وتضارب وعرقلة.
ومع ذلك فإن ما يشغل طهران هذه الأيام بعيد كل البعد عن ملف العقوبات: إطلاق سراح المعتقلة الأميركية سارة شورد، الذي جرى أول من أمس. أمّا الثاني، فضخ الوقود النووي في مفاعل بوشهر المتوقع أواخر أيلول الجاري.
مصادر قريبة من مراكز صنع القرار في إيران تنفي نفياً قاطعاً أي علاقة لإطلاق شورد بإطلاق سراح العالم النووي الإيراني شهرام أميري منتصف تموز الماضي. تقول «إنها دفعة على الحساب لاستحقاق مقبل لا سابق. مبادرة حسن نية في إطار مشروع أكبر يُنظّر له (نسيب نجاد، اسفنديار رحيم) مشائي، ولا يزال موضع خلاف شديد على الساحة الداخلية الإيرانية».
وتضيف المصادر نفسها إن عملية إطلاق شورد تأتي قبل نحو أسبوع من توجّه مشائي إلى نيويورك برفقة نجاد للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، مشيرةً إلى أن جدول أعمال صهر الرئيس في الولايات المتحدة مختلف عن جدول أعمال نجاد الذي «يوظف مدرسة مشائي لغايات أخرى».
خامنئي فض الاشتباك بين رفسنجاني ونجاد بشأن جامعة أزاد
ويروج مشائي لـ«مدرسة إيران الفكرية» بدلاً من «المدرسة الإسلامية». يرى أن «الإسلام زاد عزّة عندما اعتنقته إيران»، وأن «الإسلام ينبع من المدرسة الإيرانية». معروف بسخريته من «العرب الحفاة». سبق أن أكد أن إيران اليوم «صديقة للشعب الإسرائيلي».
وتوضح هذه المصادر أن «مشائي يريد أن يحيي المدرسة القومية الإيرانية، ما يزعج الأصوليين المحافظين، وهو يعمل منذ أكثر من عامين على لمّ شمل الاغتراب الإيراني، على مصالحة هذا الاغتراب مع النظام. وقد عقد اجتماعين مهمّين مع هذا الاغتراب خلال هذه الفترة». وتتابع «بما أن الاغتراب الإيراني مركّز في الولايات المتحدة، فإنّ مشائي يعمل على تحويل هذا الاغتراب إلى نوع من اللوبي الذي يعمل لمصلحة طهران في أميركا».
وتستطرد المصادر نفسها أنه «بات معروفاً أن صنّاع القرار في الولايات المتحدة توصلوا إلى قناعة بضرورة عرض صفقة شاملة على إيران تضع حداً للصراع بينهما. صفقة يجري التداول في تفاصيلها تحت الطاولة، لكنّ معالمها لم تتحدد بعد». وتضيف «في المقابل، فإن طهران تقارب العرض الأميركي بطرح بديل يحوك مشائي خطوطه العريضة رغم عدم وجود توافق في داخل إيران عليه. من هنا، يظهر كيف يستخدم نجاد مشائي كسلاح يشوّش من خلاله على الصفقة الأميركية».
ولا تستبعد هذه المصادر «إمكان أن يكون هناك مقابل تجاري أو اقتصادي لخطوة إطلاق شورد»، ملمّحة إلى «وجود معتقلين إيرانيين لدى الولايات المتحدة».
وتكشف هذه المصادر أن «القيادة (في إشارة إلى المرشد علي خامنئي) لا تتدخل في هذا الأمر الذي يبدو أنها تتركه لترى إلى أين سيؤدي. فإن كانت نتيجته إيجابية فخير وبركة. وإن كانت سلبية، فهي قادرة بكل سهولة على قطع دابره»، مشيرةً إلى أن «كلام المرشد معبّر في هذا الإطار، عندما تحدث عن ضرورة عدم خلط الفرعي بالرئيسي».
كلام المرشد جاء في سياق التعليق على سلسلة هجمات من المحافظين على نجاد بقيادة رئيس البرلمان علي لاريجاني وبعض النواب. هجمات تستهدف على وجه الخصوص حركة مشائي، الذي ترى مصادر مطلعة أن «لديه كل يوم قصة. آخر هذه القصص تعيين نجاد له مبعوثاً خاصاً إلى الشرق الأوسط. الحوزة متذمرة من مشائي وأيضاً بعض المحافظين».
وبالنسبة إلى علاقة نجاد بالرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني، تؤكد المصادر القريبة من مركز القرار الإيراني أنها «على حالها»، مشيرةً إلى أن «المعركة بينهما على جامعة أزاد حسمها المرشد الذي طلب من الطرفين فض الاشتباك بينهما، ووضع يده على الملف الذي خرج من دائرة التداول منذ نحو شهر. فشل رفسنجاني في وقف الجامعة (أي تحويلها إلى وقف) التي يجري العمل على انتقالها إلى يد الدولة بهدوء. من دون أي ضجيج. وأولى الخطوات الإعلان عن تغيير وشيك لرئيس الجامعة» عبد الله جاسبي.
ترافق ذلك مع تزايد الظهور العلني لرفسنجاني في المناسبات الرسمية، وإكثاره من التصريحات وإطلاق المواقف التي عادت وسائل الإعلام الرسمية تنقلها، مثل موقفه من التهديد بحرق القرآن في الولايات المتحدة، في مؤشر إلى رضى النظام عن أدائه. كذلك حصل مع السيد حسن الخميني، حفيد الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني، الذي عاد شيئاً فشيئاً إلى الحياة السياسية، وبدأ يحضر المناسبات الرسمية وينقل الإعلام الرسمي مواقفه. كان آخر ظهور لرفسنجاني ترؤسه أول من أمس اجتماعاً دورياً لمجلس خبراء القيادة. صحيح أن حضوره هذا الاجتماع يعدّ «ظهوراً عادياً لا دلالات له»، لكن المواقف التي أطلقها في خلاله لا شك تعدّ مؤشراً: حض على مواجهة العقوبات بـ «الطريقة المثلى» وحذّر من «محاولات لإثارة الفرقة بيننا»، مؤكداً أن «علينا اليقظة حتى لا تتضرر وحدتنا»، ومهاجماً بشدة المجموعات المتطرفة غير المنضبطة التي تهاجم بين الفينة والأخرى منازل رجال الدين ومكاتبهم.
وتقول مصادر النظام في إيران إنّ «رفسنجاني وجّه خلال الفترة الماضية مجموعة من رسائل الطمأنة إلى أنه لن يقاتل نيابةً عن الآخرين، وأنه يسلّم بقيادة خامنئي، وحريص على القائد وعلى النظام»، مشيرةً إلى أن «لقاءاته الدورية مع المرشد لا تزال مستمرة وظهوره العلني في المناسبات الرسمية يتزايد يوماً بعد يوم».
خاتمي يُعد لإعلان تمايزه عن الثورة الخضراء وكروبي للانتحار السياسي
لكن هذا لا يعني أن علاقته بالنظام قد استقرت. هناك مؤشرات عديدة تفيد أنّ علاقته بالنظام لم تستقر بعد، بينها عدم حضوره كلمة المرشد في اللقاء الذي جمعه بقادة النظام يوم عيد الفطر، كذلك عدم إلقائه الخطبة في يوم القدس الذي يصادف يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان، وذلك للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود.
وترى المصادر القريبة من دوائر صنع القرار أنّ «المعارضة أصبحت مكشوفة. فقدت الغطاء الذي كان يؤمّنه رفسنجاني لها»، مشيرةً إلى أن الرئيس السابق محمد خاتمي «يُعِدّ للفصل بين مساره ومسار الثورة الخضراء». وتضيف «هو يرى أن تهور البعض من قادة الثورة الخضراء قد دمّره ودمر إنجازاته، وهو يعدّ حالياً لرسالة أو خطاب أو مقال قريب يعلن في خلاله تحييد نفسه عن باقي قادة المعارضة».
أما القيادي الآخر في المعارضة، الرئيس الأسبق للبرلمان مهدي كروبي، فترى المصادر نفسها أنه «أصيب بالجنون على ما يبدو. وهو مصر على الانتحار السياسي. يتنقّل بين وسيلة إعلامية سعودية وأخرى. على ماذا يراهن؟ لا مشروع لديه ولا قوة، لا مالية ولا شعبية، ولا انسجام».
مصادر عليمة بشؤون الداخل الإيراني وشجونه تقول إن كروبي هو «الوحيد من قادة المعارضة الذي تبدو علامات التوتر واضحة عليه. الباسيج يحاصرون بيته دائماً ويطالبون بمحاكمته هو والسيد محمد علي دستغيب، الذي يعدّ من علماء الإصلاحيين في أصفهان»، مشيرة إلى أن «كروبي يحاول الاستنجاد ببعض علماء الدين في قم».
وكان دستغيب قد وجّه رسالة إلى مجلس الخبراء، الذي يشغل مقعداً فيه، انتقد في خلالها أداء السلطة وسبل تعاملها مع قادة المعارضة، التي رأى أنّ «قواها عمّقت من عناصر الاتحاد في ما بينها، وأنها تبدي المزيد من الرغبة في تحقيق وإعادة إحياء آراء الإمام الخميني، وأنها لا تطالب سوى بأن يعمل مجلس صيانة الدستور والأجهزة الأمنية، على تنفيذ مواد القانون الأساسي».
وتضيف المصادر نفسها، في وصفها لحال زعيم المعارضة مير حسن موسوي، إنه «يبدو محبَطاً. لا يتكلم، لا يكتب، لا يصرّح. لا شك في أنه في فترة مراجعة. هناك تعتيم على وضعه»، مشيرةً إلى أنّ أحد مساعديه، ويدعى محمد حسين بهشتي، التقى قبل مدة مستشار نجاد، مهدي غولهر، المعروف بانفتاحه. وأوضحت أن «اللقاء لم يرشح عنه شيء. أصلاً الرجلان صديقان قديمان. تعاتبا وتجادلا. هذا كل ما عُرف عن اجتماعهما».


بوشهر وعودة الروسي الضالّ

في تفسيرها لقرار روسيا بدء تشغيل مفاعل بوشهر، ترى مصادر النظام في إيران أنه جاء كبادرة حسن نيّة حيال طهران بعدما توصلت موسكو إلى قناعة بأن «ممارساتها بلغت حداً يهدّد بفقدانها وضعها كنموذج في المدى الحيوي الذي تتحرك في إطاره». وتوضح المصادر أن روسيا «لطالما ساومت أميركا على صفقات دفعت ثمنها من الجيب الإيراني. لكن هذه المرة (إقرار العقوبات الأخيرة) خرجت عن المألوف فكان أن هزّت طهران العصا بشدة، ما دفع كلاً من موسكو وبكين إلى إجراء مراجعة، ليس عشقاً بإيران بل حرصاً على المشروع العالمي الذي تعملان من أجله». وتضيف «الانتهاء من العمل في بوشهر ما هو إلا خطوة روسية تستهدف من خلالها موسكو استعادة العلاقة الدافئة مع طهران، واستعادة (الآخرين) للثقة بها»، من دون أن تنكر دور «التزام روسيا بعقود مع إيران وحقيقة أن الصناعة النووية هي صناعة تجارية بالنسبة إلى الدب الروسي».