العالم في ورطة. كأنّ العدّ العكسيّ لزواله بدأ. تتسارع سيناريوات الكوارث وتسبق توقعات العلماء. المناخ انقلب على نفسه. الحرارة ترتفع بصورة لم يسبق لها مثيل. فيضانات. موجات صقيع. مدن تغرق... هذا ما هو العالم عليه اليوم، وهذه مجرد صورة صغيرة لما هو آتٍ. إنه الاحتباس الحراري ومافيا الدول الصناعية الرائدة!
ربى أبو عمّو
يبدو العالم كأنه يستعدّ للحظاته الأخيرة. دخل مرحلة الشيخوخة. يشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة لم يسبق لها مثيل. أمطار غزيرة في غير وقتها ومكانها. فيضانات. ضحايا. جميعها ترسم علامات النهاية. الكوارث باتت تسبق التوقعات. شهدت الـ150 سنة الأخيرة تغيّرات مناخية كانت تستغرق ملايين السنين. العلماء متشائمون، إلّا إذا استمع إليهم قادة العالم، وتخلّوا عن أطماعهم لإنقاذ الحياة على الأرض قبل حلول عام 2015، وبلوغ مرحلة اللاعودة.
ماذا يحدث حول العالم؟ آلاف الهكتارات من الغابات في روسيا تشتعل. حصيلة الضحايا بلغت حتى اليوم 52 قتيلاً. أعلنت روسيا فرض حال الطوارئ حول مركز إعادة معالجة النفايات النووية وتخزينها في ماياك في منطقة الأورال، بسبب انتشار الحرائق. وفي المجموع، دمّرت حرائق الغابات في روسيا نحو 668 ألف هكتار منذ بداية الصيف. ويفترض أن يحطّم صيف هذا العام الأرقام القياسية لارتفاع درجات الحرارة. فقد أعلن رئيس هيئة الأرصاد الجوية، ألكسندر فرولوف، أن البلاد تشهد أسوا موجة حرّ منذ ألف سنة على الأقل، فيما أشارت السلطات الصحيّة إلى ارتفاع عدد الوفيات في موسكو بسبب ارتفاع درجات الحرارة والدخان السام الذي سبّبته الحرائق إلى 700 شخص يومياً.
في قبرص، وصلت درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، وبلغت في العاصمة نيقوسيا 46 درجة، وهي أعلى درجة تسجل في هذه المنطقة.
وليس بعيداً، في اليونان، شبّ حريق ضخم في الغابة القريبة من ميناء لافريو، على بعد 60 كيلومتراً جنوبي شرقي أثينا، أجبر السلطات على إخلاء ثلاثة مصائف في المنطقة على سبيل الاحتياط.
وفي القارة الأوروبية أيضاً، تحديداً في إيطاليا، أدّى تقلّب درجات الحرارة إلى إجبار نحو ثلاثين ألف إيطالي على ملازمة الفراش لإصابتهم بأمراض مختلفة، كالحمّى والتهاب الحلق، أو بسبب مشاكل في الجهاز الهضمي.
كذلك أعلنت 21 مدينة إيطالية رفع حالة التأهب ضد موجة الحر الشديد التي تجتاح جميع أنحاء البلاد إلى الدرجة الحمراء، أي القصوى، وذلك بعد تسجيل عدد من الوفيات.
وإلى بريطانيا، كشفت وكالة حماية الصحة أن موجة الحر الشديد التي شهدتها البلاد أودت بحياة مئات الأشخاص، وخصوصاً كبار السن. أما في ألمانيا، فأُجلي مئات الركاب من ثلاثة قطارات بسبب ارتفاع للحرارة داخلها نتج من موجة الحر الشديد التي تشهدها البلاد.
ولباكستان أيضاً قصتها. فالفيضانات أودت بحياة 1600 شخص على الأقل في أقل من أسبوعين. وبات نحو خمسمئة ألف شخص من دون مأوى في منطقة البنجاب وحدها. حتى إن الناطق باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، موريسيو جوليانو، أعلن أن هذه الأزمة هي «أسوأ من التسونامي الذي اجتاح آسيا عام 2004».
وأظهرت قياسات أعدّتها وكالة المحيطات والأجواء الأميركية أن شهر حزيران حطّم الرقم القياسي لارتفاع درجات الحرارة في العالم منذ بدء تدوين السجلات. فمن شهر كانون الثاني إلى حزيران، بلغ متوسط الحرارة على سطح الأرض مستوى غير مسبوق، باستثناء عام 2007، الذي سجّل رقماً قياسياً أيضاً. وبلغ متوسط الحرارة على سطح الأرض في حزيران 16,2 درجة مئوية، أي أكثر بـ 0,68 درجة من المعدل الوسطي في القرن العشرين، وهو 15,5 درجة.
هذه هي صورة العالم اليوم. يخوض الكون حرباً مع نفسه. قد تكون حرباً ضد الطبيعة، ضد الكائنات الحية، ضد المادة... للمرة الأولى، تجتمع دول العالم في مصاب واحد: ارتفاع درجات الحرارة ارتفاعاً لم يسبق له مثيل. فجأة تتساوى الدول الغنية مع الدول الفقيرة. حتى الولايات المتحدة. فإعصار كاترينا لم يكن صدفة. الفيضانات هنا وهناك. الحر، الضحايا، الأمراض، كلّها باتت مشتركة.
تحليل هذه الظاهرة بسيط. فقد دخل العالم في مرحلة تحقّق توقعات العلماء التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، وكان ينظر إليها في ذلك الوقت باعتبارها مبالغاً فيها. حتى باتت وتيرة انعكاسات ارتفاع درجات الحرارة على الأرض أسرع من التوقعات. وبدأ الضحايا يتناثرون بين الأمكنة.
ليس جديداً أن يكون الاحتباس الحراري هو مسبّب هذه الظاهرة. وليست اجتماعات قادة العالم لمناقشة هذه الظاهرة والعمل على مواجهتها بجديدة أيضاً. وبعد التيقّن من كون الاحتباس الحراري هو السبب المباشر لارتفاع درجات الحرارة، لا بد من طرح السؤال الآتي: ماذا يعني هذا الارتفاع؟
من كانون الثاني إلى حزيران، بلغ متوسط الحرارة على سطح الأرض مستوى غير مسبوق
يقول ناجي كوداي، مستشار السياسات المناخية في الـ«اندي آكت» (indyact)، وهي جمعية عالمية مستقلة تعمل على خلق بيئة إيجابية، إن ارتفاع درجات الحرارة غير المسبوق يعني بداية حدوث تغيّرات في الظواهر المناخية التي كانت مستقرة قبل بداية الثورة الصناعية. وحين يتعرّض الاستقرار المناخي للاهتزاز خلال فترة قصيرة نسبة إلى عمر الأرض، قدّرت بنحو 150 عاماً، تصبح الكائنات الحية عاجزة عن التكيّف معها بالسرعة اللازمة. وهنا تكمن الخطورة. إذ تنشأ سلسلة من التفاعلات الطبيعية التي يمكن أن تؤدي إلى خروج الطبيعة عن طبيعتها.
ويتابع كوداي، على سبيل المثال، يؤدي ارتفاع الحرارة إلى التبخّر. بالتالي، يخزّن بخار المياه الحرارة التي تؤدي بدورها إلى مزيد من الارتفاع في الحرارة. هكذا تتحول النتيجة إلى مسبّب. وينتج من التبخّر هطول أمطار غزيرة غالباً ما تتوزّع عشوائياً. كأن تمطر بغزارة في بقاع غير معتادة هذا المناخ. فقد شهدت السعودية أمطاراً غزيرة وفيضانات هي بعيدة عن واقعها المناخي.
كذلك يؤدي ارتفاع الحرارة إلى زيادة نسبة منسوب المياه عن سطح الأرض، بحسب كوداي، ما قد يؤدي إلى إغراق مناطق ومدن بأكملها، عدا عن التلوّث الذي سيصيب المياه العذبة. ويظهر هذا جلياً من خلال الفيضانات التي تشهدها بنغلادش والفيليبين وكوريا الشمالية وغيرها. أما في منطقة الشرق الأوسط، فإذا وصل ارتفاع منسوب مياه دلتا النيل إلى 30 سنتيمتراً، فسيموت 7 إلى 8 ملايين شخص غرقاً بسبب الفيضانات، عدا عن غرق جزء من النيل.
وفي السياق، تشير دراسة أعدّتها جامعة كولورادو في بولدر إلى أن التغيّرات المناخية المصحوبة بارتفاع درجة الحرارة أدّت إلى تغيّرات إقليمية في ارتفاع منسوب مياه البحر، ما يهدّد مصير سكان بعض المناطق الساحلية والجزر. وقالت إن ارتفاع منسوب مياه البحر قد يؤدي إلى زيادة الفيضانات الموسمية في بنغلادش والهند، وقد يكون لها تأثير على المدى البعيد على المناخين الإقليمي والعالمي.
وقال البروفسور وايكنغ هان، وهو أستاذ مشارك في جامعة كولورادو، إنه إذا أدى تأثير الارتفاع في درجة الحرارة إلى التحكّم في التقلبات الطبيعية، فإن جزراً في منتصف المحيط مثل جزر أرخبيل ماسكارينهاس، وسواحل إندونيسيا وسومطرة وشمال المحيط الهندي، قد تتعرض لارتفاع أكثر في منسوب مياه البحر، يفوق المتوسط العالمي لذلك.
ويؤكد كوداي أيضاً أن ارتفاع الحرارة يزيد احتمالات الحرائق التي غالباً ما تحدث جرّاء تفاعل مواد قابلة للاشتعال مع ارتفاع درجات الحرارة وهبوب الرياح. وروسيا تعدّ مثالاً حيّاً وقوياً هذا العام، وقد سبقتها اليونان العام الماضي.
ويعمل العلماء حالياً على مواجهة الاحتباس الحراري من خلال تخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، أو التكيّف مع آثاره السلبية. ويتحقق الأمر الثاني من خلال اتخاذ تدابير استباقية، تكمن في مواجهة ارتفاع مستوى البحر من خلال إقامة حواجز عالية على امتداد الساحل البحري، أو تفادي احتمال اشتعال الحرائق من خلال إجراءات وقائية، أو تأمين احتياط كاف من المياه، أو تجهيز المنازل بطريقة تصبح فيها قادرة على مواجهة الفيضانات.
يبدو هذا الحل أشبه بحلم. حتى الدول المتقدمة ستجد نفسها عاجزة عن توفير الحماية الكاملة من الكوارث المحتلمة. هذا ما يشير إليه كوداي. الطبيعة ستفاجئها، والمخاطر التي ستنتج من الاحتباس الحراري وارتفاع حرارة الأرض ستفوق التوقعات. الوقت بدأ يدهم العالم. ويقول كوداي إنه إذا فشلت الدول في اتخاذ التدابير اللازمة لاحتواء الاحتباس الحراري بحلول عام 2015 حداً أقصى، فسيدخل العالم في مرحلة اللاعودة. الكارثة ستجرّ وراءها أخرى، ومن ينجُ من الأولى يلقَ مصيره في الثانية. فإذا ارتفع موج البحر في الخليج العربي ثمانية أمتار، فهذا كفيل بإغراق كلّ من قطر والإمارات والكويت وعمان. هذا مجرد جزءٌ من كلّ.
أما المخاطر الاقتصادية والاجتماعية الناتجة من التغيير المناخي هذا، فتتمثل بداية في عدد الضحايا البشرية والمادية. فالفيضان الذي كان يوقع سابقاً نحو 30 قتيلاً، بات يودي بحياة 300 شخص.
وبحسب كوداي، ترتبط حياة عدد من الحشرات والكائنات الحية بالاستقرار المناخي، وأيّ تغيّر يؤدي إلى اضطراب في حياتها، ولاحقاً إبادتها، حتى تفقد التربة من ينقل البذور إليها. والنتيجة اختلال في شبكة الطبيعة، ما سيؤثر على المحاصيل الزراعية وملايين الناس التي تعتاش من الزراعة. كذلك فإن ارتفاع حرارة مياه البحر بنسبة جزء في المئة، يؤدي إلى موت الأسماك أو هجرتها.
الدول الكبرى بلغت ذروة التنافس على الريادة الاقتصادية، كالولايات المتحدة والصين. والريادة الاقتصادية تتبعها ريادة في التسبّب بكارثة الاحتباس الحراري. بدأت لعنة الكون على الكائنات. كأنه ينتقم من أيدي البشر التي فتكت بغلافه الجوي. قد تكون الكوارث وقد تكون النهاية. إلا أنه بات من الصعب تفادي الخطر.


للبنان نصيبه أيضاً

صحيح أن لبنان، بحجمه الصغير وإمكاناته الضئيلة، وخصوصاً من الناحية الاقتصادية، ليس له أي دور في مسبّبات الاحتباس الحراري على الكوكب، إلا أن صكّ البراءة هذا لا يعفيه من النتائج الكارثية المتوقعة. ويتجلى الأمر في درجات الحرارة العالية التي يشهدها. فقد تخطّت درجات الحرارة نسبة أربعين درجة في كلّ من بيروت والبقاع، كذلك فإن لبنان الواقع في منطقة معتدلة، والمعروف بمناخه المعتدل وفصوله الأربعة، فقد هذه الميزة خلال السنوات الخمس الأخيرة. فقد تداخلت الفصول في ما بينها، حتى أصبح الشتاء، على سبيل المثال، مزيجاً من فصول الربيع والخريف والشتاء. ورغم أن كمية الأمطار التي سقطت العام الماضي تعدّ كافية وجيدة، فإن تساقطها على مرحلتين جعل الناس يواجهون الشحّ في شهر آب، أي قبل شهر من موسم الشحّ الطبيعي.
(الأخبار)