سياسته المنفتحة تجاه الخرطوم أزعجت المتشددين في الإدارة الأميركيّةجمانة فرحات
لم تكن التسريبات الصحافية حول عرض منصب السفير الأميركي لدى كينيا على المبعوث الخاص للسودان، سكوت غرايشن، للتخلص من إدارته للملف السوداني مفاجئة، ولا سيما أنها ترافقت مع تجدد الخلافات بين أقطاب الإدارة الأميركية حول الاستراتيجية المتبعة تجاه الخرطوم، في وقت تشهد فيه الأوضاع السودانية من الشمال إلى الجنوب توتراً ملحوظاً.
ويأتي الحديث عن محاولات إبعاد غرايشن، الذي بدأ أمس زيارة روتينية للسودان، عقب انتقال الخلاف بينه وبين مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، سوزان رايس، من خلف الكواليس إلى العلن خلال اجتماع عقد الأسبوع الماضي في البيت الأبيض.
ونقل الموقع الإلكتروني لمجلة «فورين بوليسي» عن مصادر اطّلعت على الاجتماع أن غضب رايس، صاحبة الرأي المتشدد حيال التعامل مع حكومة الخرطوم، تفجر بعدما اقترح غرايشن إعطاء الاستفتاء على تقرير المصير في الجنوب الأولوية على حساب حل مشكلة إقليم دارفور.
وعلى الرغم من حصول خطة غرايشن على دعم معظم المشاركين، وبينهم وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، وما يشاع عن تمكنه من إحداث تحول في نظرة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه سبل التعاطي مع حكومة الخرطوم، يبدو أن الجنرال المتقاعد «خسر الحرب» وبات عليه التنحي.
حرب وقودها مواقفه الداعية إلى إقامة علاقة أوثق وأكثر تعاوناً وتفاعلاً مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، باعتبارها أنجع الأساليب للتأثير في سياسات النظام. كذلك سجل لغرايشن أنه كان من الأوائل الذين رأوا أن إقليم دارفور لا يشهد سوى «بقايا الإبادة الجماعية»، وهو ما رفضته علناً وزارة الخارجية الأميركية في حينه، مشيرةً إلى أن موقفها الرسمي هو أن الإبادة الجماعية لا تزال مستمرة. يضاف إلى ما ذكر، تميّز المبعوث الأميركي عن باقي أقطاب الإدارة الأميركية بموقفه من مذكرتي التوقيف اللتين أصدرتهما المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس السوداني، عمر البشير، بعدما رأى أنهما تعقدان مهمته لإيجاد حلول للأزمات في السودان.
هذه المواقف تعددت بسببها خصوماته. فإلى جانب العداء بينه وبين بعض أقطاب الإدارة الأميركية، وفي مقدمهم رايس، تعرض غرايشن لانتقادات لاذعة من قبل الحركات المتمردة في دارفور، على عكس «حركة تحرير السودان»، أبرز حركات الجنوب، التي رأت في ما يتردد عن احتمالات استبداله «شأناً أميركياً داخلياً».
وسبق لزعيم حركة تحرير السودان عبد الواحد نور، أن اتهم غرايشن بأنه «عوضاً عن القيام بدور إيجابي لحل الصراع في دارفور ووقف العنف ضد أبناء الإقليم، فإنه تجاهل مهمته، وتحول إلى مشكلة وعائق بسبب موقفه الحيادي».
أما زعيم حركة العدل والمساواة، خليل إبراهيم، فرأى أن المبعوث الأميركي «يتصرف كوزير خارجية (للرئيس السوداني عمر) البشير، وأنه يعمل فقط على تقوية الحكومة» السودانية.
وساهمت هذه النظرة لغرايشن من قبل حركة العدل والمساواة سلبياً على جهود واشنطن للتوصل إلى سلام في الإقليم، بعدما رفضت الحركة الاستجابة للمساعي الأميركية الهادفة إلى إقناع خليل بالعودة إلى مفاوضات الدوحة.
بدورها، هاجمت جماعات الضغط المعنية بالشأن السوداني غرايشن، متهمةً إياه بأنه فشل في وقف انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور أو في تحميل الخرطوم مسؤولياتها.
وفي السياق، نقلت «فورين بوليسي» عن المدير التنفيذي لمشروع «يكفي» (enough)، جون برندرغاست، قوله «خلال السنة والنصف الماضية، شاهدنا ازدياداً للعنف في دارفور ورأينا انتخابات ثارت حولها الشبهات من دون أي عقوبات، وشاهدنا تعميقاً للخلافات التي يمكن أن تسبب استئناف الحرب بين الشمال والجنوب». وخلص إلى القول إن «أياً من هذه الأمور لم يستتبع من إدارة أوباما سوى مجرد بيان في بعض الأحيان، وهذا ما أعطى ضوءاً أخضر واضحاً للنظام في الخرطوم لمتابعة خطواته المثيرة للحرب على النحو المعتاد»، متهماً غرايشن بأنه «أشرف على هذه السياسة».
اتهامات عززها وجود مشاكل عالقة، عجز غرايشن عن القيام بدور في تخطيها، ومثّلت على ما يبدو دافعاً لواشنطن للتفكير جدياً بتغيير استراتيجيتها تجاه الخرطوم، ولا سيما أن الأوضاع في البلاد مرشحة للتفاقم نحو الأسوأ.
فمن جهة، لا يزال حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان عاجزين عن المضي قدماً في الإعداد لاستفتاء الجنوب بسبب الفشل في الاتفاق على تعيين الأمين العام لمفوضية استفتاء الجنوب، ما يهدد بنسف الاستفتاء ويرفع من مخاطر عودة الحرب بين الشمال والجنوب.
أما في إقليم دارفور، فإلى جانب تعثر مفاوضات الدوحة وعودة الاشتباكات المتقطعة بين الحكومة السودانية والحركات المتمردة، ارتفعت وتيرة الفتور في العلاقة بين الحكومة السودانية والأمم المتحدة.
وتولى عدد من المسؤولين السودانيين، الذين يرون في الأمم المتحدة مرآة للسياسة الأميركية في بلادهم، اتهام المنظمة بأنها أصبحت «دولة داخل الدولة» تسهل إيصال السلاح للمتمردين وتؤمن الحماية لهم عقب لجوء عدد من المتورطين في أحداث معسكر «كلمة» التي اندلعت بين الرافضين لمفاوضات الدوحة والمؤيدين لها إلى الاحتماء ببعثة اليوناميد.
ووسط هذا التدهور، يبدو أن دعوة الرئيس السوداني، عمر البشير، قبل نحو عشرة أيام لولاة دارفور لطرد المنظمات الإنسانية التي «تتجاوز» حدود مهمتها في هذه المنطقة من دون الرجوع إليه، قد وجدت طريقها إلى التنفيذ، بعدما أعلن طرد خمسة مسؤولين في منظمة الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي عبر إيفاد رسائل إليهم تفيد بأن «أمنهم لم يعد مضموناً وأن عليهم مغادرة دارفور».