كل ما يحصل في تركيا يُحَمَّل حقنة زائدة من التحليلات الكبيرة. والقضية الكردية، بما هي أمّ القضايا في هذا البلد، وبما يمكن إلصاقه بها بسبب تشعّبها وتعقيداتها، هي نموذج للمسألة التي يمكن قول أي شيء فيها
أرنست خوري
اكتشف العقل التركي في الأمس أنّ حزب العمال الكردستاني مرتبط عضوياً بمنظّمات «إرغينيكون» الإجرامية. كذلك، تبيّن لصحافة تركيا وساستها أنّ هذا الحزب يعمل وفق أجندة إسرائيلية. واليوم، بعد مرور أسبوع على إعلان حزب عبد الله أوجلان هدنة رمضانية تنتهي في 20 أيلول المقبل، خرجت إلى العلن الأنباء التي تربط بين هذه الهدنة و«مساومة» مع الحكومة لإمرار استفتاء 12 أيلول على التعديلات الدستورية بأمان.
وكان كافياً أن يخرج الرجل الثاني (من بعد أوجلان) في «العمال الكردستاني»، مراد كرايلان، بكلام من نوع أنّ حزبه قرّر إعلان الهدنة «تجاوباً مع طلب من حكومة أنقرة»، حتى تنهمر التحليلات والتفسيرات التي تدين الحكومة التي «تقول إنها لا تفاوض الإرهابيين من جهة، بينما لا تتردّد في توجيه الرسائل والطلبات إليهم حين يخدم ذلك مصالحها». والمصلحة المقصودة بالنسبة إلى الحكومة هنا تكمن في إمرار موعد الاستفتاء بسلام.
وفاجأ كرايلان الوسط السياسي التركي في ما أعلنه في مقابلة مع صحيفة «ملييت»، عندما قال إنّ «الدولة بنفسها طلبت منّا وقف إطلاق النار على قاعدة الحوار المتواصل بين قيادتنا والحكومة»، واصفاً هذه الهدنة بأنها «محاولة لإعطاء فرصة جديدة للسلام».
والتقطت صحيفة المعارضة «حرييت» خيط هذا الكلام لتذكّر بالروايات التي تتحدث عن زيارات قام بها قادة في حزب «العدالة والتنمية» أخيراً إلى سجن إمرلي، حيث عقدوا اجتماعات مع أوجلان انتهت بالاتفاق على إعلان هدنة «على الأقل إلى حين انتهاء الاستفتاء الدستوري».
أوجلان أيّد الهدنة فور إعلانها واعترف بأنّ التعديلات الدستورية لا تلحظ الحقوق الكردية
وسارع حزب «الحركة القومية التركية» إلى تفصيل الرواية، إذ بدا نائب رئيسه أوكتاي فورال واثقاً من أنّ الهدنة هي نتيجة توزيع أدوار بين «العدالة والتنمية» و«العمال الكردستاني» وحزب «السلام والديموقراطية» (الحزب الشرعي لأكراد تركيا). ووصلت ثقة المسؤول المعارض بنفسه إلى حدّ توقّعه أن يُطرَح موضوع «الحكم الذاتي الديموقراطي» (في المناطق ذات الغالبية الكردية) قريباً على جدول أعمال الحياة السياسية التركية، نتيجةً للحوارات و«العلاقات الوسخة» التي تجمع الحكومة بـ«الإرهابيين».
وفسّرت صحف المعارضة التعمّد الرسمي في تحاشي الردّ على الروايات التي تربط قرار الهدنة بمساومة حكومية ـــــ كردية، بأنّ «الحكومة لا تجد حالياً مصلحة لنفسها في افتعال مشكلة مع أحزاب المعارضة تضرّ بنتيجة استفتاء أيلول».
وممّا يغذّي نظرية المؤامرة، معطيَان:
أولاً، أنّ حزب «السلام والديموقراطية» الكردي، الذي يعلم حكام أنقرة أنّ بإمكانه تجيير أصوات الغالبية الساحقة من الناخبين الأكراد، أعلن موقفاً متردّداً من الاستفتاء. فهو لم يعارضه ولم يؤيّده، بل أعلن مقاطعته بحجة أنّ التعديلات بعيدة عن روحية دستور ديموقراطي حقيقي. ورغم الدعوة للمقاطعة، فقد وضعت أحزاب المعارضة موقف حزب الأكراد في خانة تأييد الاستفتاء.
وهنا يمكن الحديث عن الموقف «الملتبس» لأوجلان إزاء الاستفتاء. فآبو، الذي أيّد الهدنة فور إعلانها، اعترف (من طريق محاميه)، بأنّ التعديلات الدستورية لا تلحظ الحقوق الكردية، لكنه أوضح أنّ «شعبنا حرّ في مناقشة هذه المسألة (الاستفتاء)، وعليه أن يفكّر في قراره حتى اليوم الأخير لما قبل موعد الاستفتاء ليقرّر بشأنه».
موقف سياسي «يوازي بأهميته الهدنة»، بحسب السياسي والصحافي الكردي أورهان مير أوغلو، على اعتبار أنهما مبادرتا حسن نية كرديتان تجاه الحكومة.
حسن نية لم يستبعد الكاتب في «ملييت» ناميك دوروكان أن تردّ عليها الحكومة بالمثل، بأشكال مختلفة، بدءاً باحتمال «تجميد العمليات العسكرية ضدّ المقاتلين، أو بتحسين ظروف اعتقال أوجلان، أو حتى من خلال تعديل قانون الانتخابات لخفض سقف الـ10 في المئة» التي يشترط على أي حزب أن ينالها في أي انتخابات ليتمثل كحزب.
ثاني تلك المعطيات، تفصيل ميداني عسكري. إذ معروف أنّ جميع هدن «العمال الكردستاني»، منذ عام 1984 على الأقل، تحصل في فصول الشتاء (آخر هدنة انتهت في 31 أيار الماضي) حين لا تعود العمليات العسكرية ممكنة في ثلوج الجبال. ويأتي إعلان وقف إطلاق النار الجديد في توقيت مستغرَب، إذ يعلّق العمليات العسكرية في عزّ «موسمها»، وهي التي كانت أكثر من «ناجحة» هذا الصيف، إذ أودت بحياة قرابة 180 جندياً تركياً، بحسب أرقام «قوات الدفاع الشعبي الكردستاني».