أن تعترف الدولة التركيّة بأنها تفاوض عدوّها الأول عبد الله أوجلان منذ عام 1999، فهذا ما لم يكن تصديقه بالأمر السهل. لكن الاعتراف حصل، وهو قد يُعتَبَر الإنجاز الأكبر لـ«العدالة والتنمية» على صعيد معالجة القضيّة الكرديّة
أرنست خوري
أدلى الطاقم الحاكم في تركيا، في اليومين الماضيين، بأكبر اعتراف يتعلق بأكثر قضية حساسة في تاريخ البلاد، أي القضية الكردية: نحن نفاوض، منذ زمن، زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في سجنه في جزيرة إمرلي. أمّا فنّ المناورة، فبات ينحصر في تحديد هويّة الـ«نحن». هنا كان لا بدّ من فذلكة قانونية ـــــ دستورية من رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان الذي قدّم مطالعة بهدف التمييز بين «الدولة» و«الحكومة». وهيّأ أردوغان الأجواء للاعتراف بمفاوضة «آبو»، عندما قال في برنامج «الساحة السياسية» على قناة «أن تي في» التركية، يوم الاثنين، إنّ الدولة «يمكنها أن تفاوض من تشاء، وإن تطلب الأمر التحدث مع المنظمة الإرهابية (العمال الكردستاني)». وتابع: «أما الحكومة، فهي لا تلتقي أبداً مع الإرهابيين ولا من يمثلهم».
أسباب الاعتراف موجبة، بعدما كشف الرجل الثاني في «العمال الكردستاني»، مراد كرايلان، أنّ قرار وقف إطلاق النار الذي اتخذه حزبه حتى 20 أيلول المقبل، جاء «تلبية لمطالب الدولة التركية التي تفاوض قيادتنا». فضْحٌ فتح باب جهنّم المعارضة وصحافتها القوية على الحكومة وحزبها المتّهمَين بمساومة «الإرهابيين» لإنجاح استفتاء 12 أيلول بشأن التعديلات الدستورية، ولقطع الطريق على معسكر الـ«لا».
وبعدما مهّد أردوغان التبرير الدستوري للاعتراف بوجود خطوط الحوار مع أوجلان شخصياً، سارع عدد من المسؤولين إلى الاعتراف العلني بأنّ هذا النوع من المفاوضات أمر طبيعي وليس بجديد. أول هؤلاء كان الرئيس عبد الله غول، الذي لفت إلى أنّ «السلاح ليس الوسيلة الوحيدة لمحاربة حزب العمال الكردستاني»، موضحاً أنّ «جميع الأدوات يجب تعبئتها، دبلوماسية كانت أو عسكرية».
وزاد وزير العدل سعد الله إرغن على كلام رئيسه بالتأكيد أنّ «مسؤولين رسميين، استخباريين خصوصاً اجتمعوا ويجتمعون مع أوجلان متى وُجدَت الحاجة إلى ذلك»، مشيراً إلى أنّ ذلك «ليس وليد الأمس، بل هو حاجة قديمة». واكتمل مشهد الاعتراف التاريخي بكلام النائب السابق لرئيس وكالة الاستخبارات الوطنية (mit) جواد أونش، الذي شدد في مقابلة مع صحيفة «طرف»، على أنّ الاتصال مفتوح مع أوجلان منذ اعتقاله عام 1999. وقسّم أونش هذه الاتصالات إلى 3 مراحل: الأولى امتدّت بين 1999 و2006، واقتصر خلالها محاورو أوجلان على عسكريين، ومُنع رجال الشرطة والاستخبارات من المشاركة فيها. أما المرحلة الثانية، التي بدأت في 2006، فقد فُتح المجال خلالها لمشاركة، لكن ضعيفة من المدنيين. وبحسب المسؤول الاستخباري، فقد بدأت المرحلة الثالثة، عندما تكثّفت هذه اللقاءات بين المدنيين وأوجلان منذ 2008 «بعدما اقتنع العسكر والساسة الأتراك بأنّ حلّ القضية الكردية لا يمكن أن يأتي من طريق المسدسات حصراً، بل عبر الدبلوماسية والعوامل الاقتصادية والنفسية أيضاً». ومن التبريرات الرسمية الضرورية لهذه الاعترافات، التسليم بأن أوجلان «العقلاني»، لا يزال الرجل الكردي الأقوى في العالم، ويحكم بقبضته على قرارات «الكردستاني» العسكرية والسياسية.
وبعدما لم يعد قول إنّ أنقرة تفاوض من تسمّيهم إرهابيين تهمة، نقلت الكاتبة في «توداي زمان»، عائشة كربات، عن نائب «الشعب الجمهوري» المعارض تسيدار سيهان، تأكيده أنّ الرئيس الحالي لوكالة الاستخبارات الوطنية هاكان فيدان، هو من يتولى ملف التفاوض مع أوجلان، موضحاً أنّ آخر مرة التقى فيها الرجلان كانت في 20 تموز الماضي. وشرح النائب المعارض أنّ فيدان اتجه في ذلك اليوم برفقة مساعدين اثنين له إلى إمرلي، حيث أطفئت جميع كاميرات المراقبة المثبتة في الجزيرة ـــــ السجن.
الاعتراف بوجود قنوات حوار مع أوجلان ورجاله ليس تفصيلاً في الحياة السياسية التركية، إذ إنّه يحصل للمرة الأولى على لسان مسؤول رسمي في البلاد، رغم أنّ التقارير التي تتحدث عن مفاوضات سرية بين الطرفين قديمة قِدَم اعتقال أوجلان. لكنّ شيئاً يشبه «التواطؤ الجماعي»، الذي تشترك فيه الحكومة والمعارضة، يحكم التعاطي مع هذه القضية، يقوم على التفاوض مع «الإرهابيين»، وفي الوقت نفسه نفي ذلك، بدليل أنّ من الصعب إحصاء عدد المرات التي نفى فيها حكام أنقرة المعلومات التي كانت تتحدث عن إرسالهم مبعوثين إلى جزيرة إمرلي، أو بعث رسائل عبر وسطاء إلى نزيلها الوحيد.