على مشارف كل خريف يستعيد الروس ذكريات تختلط فيها مشاعر الفرح والمرارة والأمل والتعب... أجيال الاتحاد السوفياتي لا تزال تشهد على زمن جميل وقاس، هي التي نامت في ليلة مضطربة لتستفيق على حقبة جديدة قيل لها إنها واعدة. في روسيا اليوم، أجيال متباعدة في التاريخ والمبادئ والسياسة والانتماء. فكيف يعيش هؤلاء «تحت سقف واحد»؟
صباح أيوب
عند مدخل الساحة الحمراء في موسكو تقف مجموعة من كبار السنّ جنباً الى جنب، يرفعون عالياً ـــــ بقدر ما تسعفهم أيديهم النحيلة ـــــ أعلاماً سوفياتية وينشدون بأصوات متقطعة أغاني ثورية عن «الراية الحمراء» و«الثورة المتوهجة». رجلان وثلاث نساء في العقد السابع والثامن من العمر يأتون، كلما سمحت لهم ظروفهم الصحيّة، ليؤدّوا التحية لـ «اتحادهم السوفياتي» أمام السيّاح.
فندق «لينين» يتوسط موسكو ويؤمّه الزوّار بالمئات، سلسلة مطاعم «CCCP» و«لينين بار» تبقى مكتظة، قنوات تلفزيونية تعرض مسلسلات سوفياتية فقط، شباب يجددون أغاني ثورية ويصممون أزياءً تحمل شعار «المنجل والمطرقة». ماذا يجري في جمهورية روسيا الفدرالية؟ هل عاد السوفيات؟ هو «مجرّد حنين» إلى الزمن الماضي، يجيب علماء الاجتماع.
في المطبخ الضيّق تقف أولغا (64 عاماً) وفي يدها الـ «غرانيوني ستاكان» (وهو كوب من صنع الاتحاد السوفياتي اشتهر بصلابته)، ترميه أرضاً فلا ينكسر، تهزّ رأسها وتقول: «قد نتلقى ضربات كبيرة لكننا لا ننكسر... هذه الأكواب موجودة في منازلنا منذ عشرات السنين ولا نزال نستخدمها».
يفتح فلاديمير (60 عاماً) ألبوم الصور ويتنّهد: «كنا أمّة موحّدة قوية، كنت أزور أصدقائي في الدول السوفياتية باستمرار دون أي رادع، أما اليوم فلا أستطيع ذلك».
فيكتور (52 عاماً)، يجلس يومياً في مقصورة المترو متوجهاً الى إحدى مدارس سان بطرسبرغ حيث يدرّس، ويقول في نفسه: «السعادة لا تكمن في أن يكون لدينا مئة نوع من اللحوم المجلّدة في السوبرماركت. كنّا أكثر سعادة وهدوءاً من قبل. أنا لا أريد أن يعود النظام السوفياتي بكل أوجهه، لكني لغاية اليوم ما زلت أجهل ماذا تعني الديموقراطية تلك!».
في أحد الأحياء السكنية الفقيرة في موسكو، يقطن أوليغ (44 عاماً) وتاتيانا (42 عاماً) مع ولديهما، تعرّف الزوجان إلى بعضهما بعضاً خلال التظاهرات الشعبية التي واكبت الأيام الأخيرة لعهد ميخائيل غورباتشوف، وكانا من بين المتحمسين لسقوط النظام الشيوعي و«إحلال الديموقراطية»، لكنهما لا يخفيان اليوم شعوراً بالندم، «إذ إن التعليم والخدمات الصحية والمسكن كانت متوافرة للجميع، على عكس اليوم».
أليكسي (43 عاماً)، هو صديق الزوجين منذ أيام سقوط النظام، لكنه رجل أعمال ناجح يسكن في أحد أرقى أحياء العاصمة الروسية ويمتلك سيارة حديثة، هو مقتنع بصوابية ما جرى من حيث تحرير الاقتصاد وانفتاح أسواق البلاد وتحسين علاقاتها مع الغرب.
على مدوّنتها الإلكترونية تتبادل آنا (33 عاماً) مع أصدقائها «ذكريات الزمن الماضي»، حيث تعرض صوراً لمقتنيات من أيام النظام السوفياتي: زجاجة العطر النسائية الأشهر «موسكو الحمراء»، الموديل شبه الموحّد للأحذية، «ساراتوف» البرّاد المنزلي السوفياتي في كل بيت، وبعض الصحف القديمة والـ «ساميزدات». معظم أصدقاء آنا يبدون حنيناً تجاه تلك الصور، لكن الكل يتناول «الزمن الماضي» بسخرية ونقد سلبي دون إبداء أي حزن على انتهائه. آنا تعمل في مصرف وراتبها يفوق راتبي والديها معاً.
شقيق آنا، ديميتري (31 عاماً)، انضم الى الحزب الشيوعي الروسي منذ سنة وهو يناقش مع أصدقائه على الانترنت مساوئ النظام الحالي. ديميتري ينشر على موقعه الإلكتروني وصلات لأغان سوفياتية جددها مغنون روس شباب، إضافةً الى عناوين لمواقع الكترونية مخصصة لأرشيف الاتحاد السوفياتي.
لديميتري أصدقاء يتصادم معهم كثيراً، مثل نيكولاي (32 عاماً) الذي يرى أن الاتحاد السوفياتي كان سينهار في كل الأحوال نظراً إلى استحالة تطبيقه وإلى سوء إدارة المسؤولين عنه. نيكولاي يبغض عهدي غورباتشوف وبوريس يلتسن، لكنه يرى في فلاديمير بوتين الكثير من الحكمة والقوة وحسن إدارة البلاد.
أما ماريا (22 عاماً) فهي تضع صورة لبوتين على هاتفها المحمول وقد طبعت على بعض قمصانها وجه «القائد»، وهي ستنضم رسمياً الى حركة «ناشي» البوتينية القومية بعد أسابيع.
قد تعبّر هذه العينة الى حدّ كبير عن واقع جانب من المجتمع الروسي بعد نحو 20 سنة على انهيار الإمبراطورية السوفياتية. مجتمع يعاني أزمة ديموغرافية حادّة ويجسد بمختلف فئاته، تاريخاً من التحولات السريعة، بعضها خلق هوّة كبيرة بين جيلين وبعضها الآخر سبّب فجوة بين أفراد الجيل الواحد. وفيما تأقلم البعض مع الموجة الجديدة وركب قطار الاقتصاد الحرّ، لم ينجح البعض الآخر في ذلك فذهب ضحية التغيّر السريع وتشتت الهوية. ولعلّ سكان القرى والبلدات الصغيرة هم أكثر من يعيش اليوم تداعيات توسّع الفروق الاجتماعية بين الطبقات، وتراجع مستوى المعيشة وغياب خدمات الدولة. ربما هذا ما يفسّر نتائج استطلاع الرأي الذي نفّذه مركز «ليفادا» في موسكو (لعام 2009)، الذي بيّن أن الفئات التي تشتاق إلى النظام السوفياتي تتألف من 85 في المئة من سكّان الأرياف، و79 في المئة ممن لا يستطيعون تأمين لقمة العيش، و67 في المئة ممن تراوح أعمارهم بين 40 و55 عاماً.
أما طفرة المظاهر السوفياتية في المدن الروسية اليوم، فمعظمها سياحي، والجزء الآخر يدخل في خطّة بوتينية موجّهة إلى الداخل الروسي.

وداعاً «ماكدونالدز»

في أوائل تسعينيات القرن الماضي، جمع الروس كل ما يمتّ إلى النظام السوفياتي السابق بصلة، ووضعوه في عليّات منازلهم أو باعوه واستبدلوه بما هو جديد وملوّن، كما حاولوا حجز ذكرياتهم في الغرف الخلفية لذاكرتهم. لكن بعد الإحباط الذي أُصيبوا به في أواخر القرن الماضي، ها هم ينبشون أغراض الزمن القديم ويسترجعون الذكريات... الجميلة منها فقط.
«كنا كأطفال العيد، تهافتنا على فتح الهدايا وفرحنا بألوانها وبريقها... دام ذلك أياماً قليلة قبل أن تتحول لُعبنا الجديدة الى مقتنيات باهتة ومملّة»، هكذا تصف صحيفة «إزفيستيا» تغيّر المشهد في المدن الروسية حيث كان صفّ الانتظار طويلاً جداً أمام مطاعم «ماكدونالدز»، التي لم تعد تجذب الكثيرين اليوم.
المؤرخ الروسي فيكتور دانيلوف يختصر لصحيفة «لو موند ديبلوماتيك» (عدد آذار 2004) حال الشعب الروسي في التسعينيات قائلاً: «عشنا وراء الستار الحديدي لسنوات، وظننا وقتها أننا في قمة البؤس، لكن بعد انهيار الستار أدركنا معنى البؤس الحقيقي». دانيلوف يلفت الى أنه «في الوقت الذي فتحنا فيه أبواباً الى الخارج، علت أبواب مصفّحة بين الناس في الداخل، حيث بلغ التقوقع والانقسام في المجتمع الروسي درجات عالية وخطيرة».
أما بالنسبة إلى الحرية أو الديموقراطية التي سوّق الغرب لها كثيراً قبيل انهيار النظام فلعلّ الاستطلاع التالي يظهر مكانتها في المجتمع الروسي الحالي:
«ما هي، بالنسبة إليك، أهمّ الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور الروسي»، سألت «مؤسسة الرأي العام» عيّنة من المواطنين الروس عام 2005 وجاءت الإجابات كما يأتي: 40 في المئة سمّوا حقّ الطبابة والحصول على الدواء، 34 في المئة حقّ تأمين المسكن، 20 في المئة حق مكافحة البطالة، بينما 6 في المئة فقط اختاروا حرية التعبير عن الرأي.
هكذا يقرّ معظم المحللين الروس بفشل وسائل الإعلام ومجموعات الضغط الأميركية والأوروبية بتشويه صورة الاتحاد السوفياتي كاملة عند الشعب الروسي. بعض المواطنين يصفون اليوم الفترة التي هلّلوا خلالها لسقوط النظام بأنها كانت «سكرة»!

لينين «ملك السياحة»

في نزل «لينين» وسط موسكو، ساعة حائط عليها صورة للقائدين الشيوعيّين فلاديمير لينين وجوزف ستالين يحددان معاً التوقيت اليومي، صور لينين وتماثيله تزيّن الغرف وباحة الاستقبال، وأقواله تنتشر في المطبخ. في الساحات العامّة والأسواق، تكثر بسطات عليها نياشين سوفياتية وعملات قديمة وقمصان وقبّعات عسكرية سوفياتية وصحف وملصقات بروباغندية، وتماثيل لينين تصطف الى جانب الأيقونات الأرثوذكسية... سلسلة مطاعم «بيتروفيتش» تقدم أطباقاً سوفياتية شهيرة والنبيذ السوفياتي... حتى المطاعم المكلفة بعضها اتخذ اسم CCCP والبارات تشهر صوراً للينين وهو يشرب الفودكا أو

بعد انهيار الستار الحديدي أدركنا معنى البؤس الحقيقي
البيرة. «لينين يجذب السياح»، يكاد يجمع معظم أصحاب تلك المصالح وهم من الشباب. أما الموضة الجديدة في الأزياء الشبابية، فقد أدخلت شعار «المنجل والمطرقة» على القمصان والمعاطف والقبعات... شاشات التلفزيون الروسي تعرض مسلسلات وأفلاماً من أيام السوفيات، وقنوات الـ «إف إم» الإذاعية تصدح بأغانٍ سوفياتية مجددة. تماثيل لينين الفولاذية الضخمة يُعاد صقلها ووجهه محفور على لوحات الشوارع والحدائق العامة.
لكن كل ذلك لا يعني أنّ السوفيات عادوا أو أنّ الروس يتمنّون عودة النظام الستاليني، وخصوصاً لدى الجيل الروسي الشاب، حيث إن 79 في المئة منهم (15ـــــ 22 عاماً) لا يبدون أسفاً لسقوط النظام الشيوعي ولا يسعون إلى استعادته. بعض علماء الاجتماع يرجعون ظاهرة التعلّق بالحنين السوفياتي (الذي بلغ أوجّه في أواخر التسعينيات) إلى افتقاد الشعب قائداً يؤكّد قوّة الدولة خارجياً، ونظاماً أمنياً صارماً يضمن الأمن الداخلي.
هذا الفراغ حاول ملأه الرئيس السابق فلاديمير بوتين الذي أدرك أنه بقليل من النوستالجيا يمكن أن يكسب قلوب الكثيرين، فأعاد إحياء النشيد السوفياتي، وأرجع بعض تماثيل لينين، وأحيا الاحتفالات بذكرى الثورة والانتصار على النازية... دون أن ننسى رمزية الحرب القصيرة التي خاضتها روسيا ضد جورجيا، والتي أعادت إلى الروس عنفوانهم وخلّصتهم من عقدة النقص تجاه دول الاتحاد السوفياتي السابق، كما يرى بعض المحللين.


بين «ناشي» وحليقي الرؤوس

«على جبهات المعارك لدينا من يحمينا: الكاتيوشا وبوتين...»، هكذا يردد بعض الشباب المحتشدين في تظاهرة ضد السياسة الجورجية. الشباب المتظاهرون ينتمون الى حزب يدعى «ناشي» (أي «لنا») ويطلق عليهم اسم «شباب بوتين». هؤلاء الشباب ـــــ الظاهرة (نحو 300 ألف) يعلنون الولاء المطلق لبوتين والتضحية فداء الوطن الأم روسيا، والعداء التام لـ«أعداء روسيا» من أحزاب المعارضة والقادة المعادين لسياسات بوتين والفاشيين. البعض يشبّه «ناشي» بـ«الشبيبة الشيوعية» في زمن الاتحاد السوفياتي.
ظاهرة أخرى لافتة بين الشباب الروسي، وهي تصاعد حدّة القومية المتطرفة والعنصرية تجاه كل ما ومن هو غير روسي. 80 قتيلاً سقطوا في جرائم ذات طابع عنصري في روسيا عام 2008 والمجتمع الروسي يعدّ اليوم 70 ألفاً من «حليقي الرؤوس» المنتمين إلى مجموعات متطرفة أخرى.