مع مرور الوقت، تتحوّل الرموز التاريخية إلى سلعة تجارية، يصبح التخلّص منها سبباً لتقدّم الأمة، أو على الأقل، تظهر دولة ما بصورة جديدة شبابية المظهر وأقرب إلى الحداثة، ما ينعكس على القطاعات السياسية الخارجية والاقتصادية والسياحية للدولة
ربى أبو عمّو
شاعت نكتة في الصين، خلال فترة التسعينيات، عن شرطي كان يلقي القبض على نشّال، فقال له: «رفيق! أنت رهن الاعتقال». نادى الشرطي المتهم بالرفيق، كأنه يساوي بينه كمسؤول عن تحقيق النظام، وبين من يتعدى عليه.
اليوم، ربما لم تعد النكتة صالحة للاستخدام. ليس ذلك بسبب مرور الوقت، بل بسبب قرارات «الحداثة» الجديدة، التي قررت أن تنتهجها الصين، إذ طالبت سائقي الحافلات وبائعي البطاقات للمسافرين بترك الشيوعية وراءهم، مع تدريبهم على مخاطبة المسافرين بكلمتي «سيدي» أو «سيدتي» بدلاً من «رفيق». أما البكينيون المتقدمون في العمر، الذين لا يزال بعضهم يرتدي قمصان «الرفيق» ماو تسي تونغ، فسيعفون من القانون الجديد. وستكون عبارة «الرفيق القديم» بمثابة الخيار الأخير لمخاطبة المسافرين من كبار السن، على أن تكون الأولوية لكلمة سيد وسيدتي.
وقال مسؤول صيني، رفض الكشف عن اسمه لصحيفة «بكين يوث»، إن «كلمتي سيدي وسيدتي تعكسان على نحو أفضل المفهوم الحديث للخدمة العامة». وأضاف إن «الاستخدام المفرط لكلمة رفيق هو أمرٌ محرجٌ، وخصوصاً حين يكون الشخص المُنادى لا ينتمي إلى الحزب السياسي الذي ينتمي إليه المنادي».
إضافة إلى ذلك تشير صحيفة «تشاينا هاش» (china hush) إلى أن كلمة رفيق بالصينية تستخدم أيضاً لوصف مثليّي الجنس.
مصطلح الرفيق يعني «زميل اشتراكي» أو «زميل شيوعي». وكانت الثورة الفرنسية بمثابة ملهمة هذا المصطلح بعدما ألغت ألقاب النبلاء، وحلت محل «مسيو» و«مدام»، كلمة مواطن (citoyen). مثلاً، صار يشار إلى الملك لويس السادس عشر المخلوع، بالمواطن لويس (Citoyen Louis). وفي أواسط القرن التاسع عشر، بدأ الاشتراكيون البحث عن بديل لمصطلحات «آنسة، سيد، سيدة»، فكان مصطلح الرفيق.
في الصين، بدأ استخدام كلمة رفيق على نطاق واسع بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية، إلا أنها بدأت بالانحسار في الثمانينيات، مع دخول الإصلاحات السوق الصينية. وبقيت تستخدم كوسيلة للتخاطب باحترام بين متوسطي العمر، وبين أعضاء الحزب الشيوعي.
بداية الانحسار كان مع فتح الصين أسواقها أمام العالم، وكأنها جمعت على المستوى الخطابي اللغوي، بين كلمتي «رفيق» و«سيد» في آن واحد. كان لها تعريفها السياسي ـــــ الاقتصادي الخاص. وقد شرح الزعيم الصيني الراحل، دنغ شياو بينغ، الذي يعرف بـ«كبير مهندسي مسيرة الإصلاح والانفتاح في البلاد» هذه الفكرة بوضوح. فرأى أن جوهر الاشتراكية ينص على «تحرير وتطوير الإنتاجية، والقضاء على الاستغلال وتجنب الاحتكار، وأخيراً، تحقيق الازدهار الشامل». وأضاف أن «المجتمع الشيوعي هو الأغنى في الثروة، مع روحية شعب عالية ومتقدمة باستمرار، ومع تمتع كل فرد بحرية التعبير في أي مكان».
وبما أن الإصلاح الاقتصادي لا يتكامل إلا مع الإصلاح السياسي، ضرب هذا الزعيم الصيني بيده على رأسه في إحدى المرات، وهو يشرح أن «الإصلاح الاقتصادي يكون سطحياً من دون إصلاح سياسي، وقد يتحول إلى فشل». وأكد أن الإصلاح السياسي «مثّل أهمية استراتيجية للغاية للنظام الاشتراكي، وأوكل للحزب الشيوعي بهذه المهمة»، مضيفاً «نحن نذهب لبناء الأمة على أساس نظام ديموقراطي اشتراكي وسيادة القانون».
رسم دنغ سياسة بلاده بحدود مفتوحة. وها هي الصين، التي تقترب من اجتياح العالم اقتصادياً وسياسياً، أو ربما وصلت، ترد عليه اليوم. أما قصة المصطلحات، فتندرج في إطار التكامل الاقتصادي والسياسي نحو العالمية.
الانتقال نحو التدويل الفكري والسياسي والاقتصادي عبّرت عنه دراسة أصدرتها مجلة بحوث المستهلك حول دور الاعلان في النقلة الصينية، أعده كسين زاو، من جامعة هاواي في ماناو، وروسيل وزبيلك، من جامعة يورك في تورونتو. قالا إن الاعلان هو الأداة الدعائية الرئيسية لتشجيع الاستهلاك، ومجال ممتاز لتطوير التغيّر في القيم الصينية». وشرحا أن «الترويج الدعائي في الصحافة الصينية يناقض الأيديولوجيا السياسية المناهضة للاستهلاك، لترويج النمط الاستهلاكي مع التحوّل الصيني السياسي والاجتماعي».
درس زاو ووزبيلك الاعلانات في صحيفة الشعب اليومية، ولاحظا كيف يستخدم المعلنون الرسائل والرموز الشيوعية. تقول الدراسة إنه «خلال الثمانينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، الرموز السياسية المقدسة مثل النجوم الحمراء والرايات الحمراء، التي كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع السلطة والأيديولوجية الشيوعية الصينية، اختيرت كأدوات دعائية للترويج لسلع استهلاكية كأجهزة التلفاز الملوّنة والثلاجات». كما بحثا كيف «حوّل المعلنون الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للتحديث في الرسائل المستهلك بحيث تهدف إلى جعل المستهلكين يشعرون بأنهم جزء من تحوّل الصين».
إنه نموذج الصين. بلد شيوعي جمع ما بين الايديولجيات الفكرية، الماركسية بخصائص صينية، والاشتراكية بخصائص صينية، والرأسمالية أيضاً بخصائص صينية. والانتقال من الرفيق إلى السيّد في إطار التدويل، هو أيضاً خاصيّة صينية!