قد تكون مهمّة التعريف بقائد الجيش التركي الجديد عشق كوشانر أكثر من ضرورية في هذه الـ«تركيا» التي تعيش مرحلة انتقالية، وخصوصاً على صعيد دور جيشها
أرنست خوري
يحلّ الجنرال عشق كوشانر، اليوم، ضيفاً لثلاث سنوات على مكتب رئاسة الأركان العامة للجيش التركي، بعدما حزم سلفه إلكر باسبوغ أمتعته ونياشينه العسكرية وخيباته الشاهدة على أسوأ سنوات عمر هذه المؤسسة، بانية الجمهورية ورمزها وحامية أسطورتها.
وإن كان كل ما نعرفه عن كوشانر غير كافٍ للتنبّؤ بطبيعة العلاقة التي سيرسيها الرجل خلال ولايته مع الساسة المدنيين والمجتمع المدني وصحافة تركيا، إلا أنّ الأكيد يبقى الجزم بأنّه سيكون عليه الاستفادة من خبرته العسكرية التي تخطّى عمرها 45 عاماً لمحاولة إنجاح عهده. عهد سيكون شديد التعقيد والصعوبة، نظراً إلى ما ضرب هذا الجيش في السنوات الأخيرة من حدٍّ جدّي لدوره السياسي، وتورّط في ملفات جرائم (إرغينيكون) وفساد على أنواعها، وشحّ في الإنجازات العسكرية. إخفاقات لم يزدها تضخّم عديده (نحو مليون جندي) إلا المزيد من الغرق في الوحول على أنواعها.
وصل كوشانر، ابن مدينة إزمير معقل العلمانيين المتشددين تاريخياً، إلى المنصب الأول في الجيش التركي، في الثامن من آب الجاري، نتيجة لإجماع القيادتين التركيتين السياسية والعسكرية على اسمه، في ختام المؤتمر السنوي للمجلس العسكري الأعلى. مؤتمر دخل التاريخ بعدما قرّر رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان استعمال صلاحياته، ورفض التوقيع على عدد من الترقيات لمصلحة جنرالات مطلوبين للمحاكمة (كشهود أو كمتهمين).
صحيح أنّ اسم كوشانر بقي بعيداً عن الشبهات في قضية إرغينيكون و«خطّة المطرقة» الشهيرة، لكن هذا لا يعني أنّه رجل لا يتمتع بما تمتّع به جميع قادة جيش مصطفى كمال. فكوشانر، شأنه شأن سلفه باسبوغ، يحفظ ويردّد ما كتبه أتاتورك عن دور الجيش الريادي في المجتمع والدولة، ويتمسّك بـ«احتقاره» للساسة المدنيين والإسلاميين والشيوعيين والأكراد والمؤيّدين لتخلّي تركيا عن الشق الشمالي من جزيرة قبرص.
جنرال صقر علمانياً وكردياً وقبرصياً: 3 أسباب ترجّح عدم انفجار علاقته بالمدنيين
ولا تقتصر أوجه الشبه بين كوشانر وباسبوغ على ذلك، بل تطال نظرتهما وتعاطيهما مع الإعلام. وما كان من كوشانر، قبل أن يتسلّم منصبه حتى، إلا أن أطلق أول خطاباته المنتقدة بقساوة للإعلام، وذلك خلال تسليمه منصبه السابق (كقائد للجيش الأول) إلى الجنرال المعيّن حديثاً، إردال جيلان أوغلو، يوم الأربعاء الماضي.
إذاً كوشانر أحد الصقور في ما يتعلق بالنظام العلماني ورفض مسّ موقع الجيش في النظام والقرارات المصيرية فيه. لكنّ الصحف التركية سلّطت، في الأيام الماضية، أضواءها على عدد من النقاط التي تشير إلى أنّ سقف العلاقة الصدامية مع الحكومة لن يتخطّى مستوى ما شهدته الخلافات بين أردوغان وباسبوغ.
أولاً، لأنّ الحكومة تصرّفت بذكاء عندما سارعت إلى تزكية كوشانر مرشّح المجلس العسكري الأعلى. وبالتالي، فإنّ الرجل بات يُنظَر إليه، نوعاً ما، كمرشح الحكومة.
ثانياً، لأنّ الرجل معروف عنه حماسته الشديدة للسير بشروط انتساب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفع عدداً من المحللين إلى توقّع سكوته عن تعديلات دستورية وقانونية حساسة (من ناحية الحدّ من صلاحيات الجيش) تحت شعار «ضرورات الانتماء الأوروبي».
ثالثاً، إدراكه أنّ مرحلة انتهت بالنسبة إلى الجيش وإلى الصلاحيات المطلقة التي مارسها لنحو 8 عقود، وبدأت حقبة أخرى مختلفة، عنوانها إعادة تعريف موقع هذه المؤسسة لتصبح جيشاً كأي جيش في أي ديموقراطية أوروبية. وهنا، بدا كأن المجلس العسكري الأعلى أراد انتقاء أحد جنرالاته الأذكياء الذين يعرفون كيفية التعايش مع المرحلة الجديدة، مع المحافظة على أكبر قدر ممكن من صلاحيات «الزمن (العسكري) الجميل وامتيازاته».
يُرَجَّح أن يكون كوشانر قليل الكلام في سنواته القيادية الثلاث. فهو كلما تحدث أثار مشكلة. قبل عامين، ألقى خطاباً نُصح بالسكوت من بعده. في حينها، قال ما حرفيّته إنّ «دولتنا الأمة عرضة للزوال باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان». بالفعل، صَمَت عامين، لكن كان عليه العودة إلى الكلام الأربعاء الماضي، فأثار الإعلام ضده باكراً، عندما وضع كل انتقاد للمجلس العسكري الأعلى في خانة إضعاف الجيش في حربه على الإرهاب. هو «الإرهاب» الكردي طبعاً الذي أبكر كوشانر بالتبشير بأنه لا ينوي حلّ أسبابه، جازماً بأنّ الحرب ستستمر «لأن لا بدائل عن المعركة المسلّحة، ولأن لا حلّ إلا بالسلاح».
لكنّ حظّ كوشانر عاثر للغاية، فقد تسلّم مسؤوليته قبل 12 يوماً فقط من الاستفتاء التاريخي على تعديلات دستورية مرشّحة للفوز، ومن شأنها انتزاع عدد من الصلاحيات العسكرية، بينما سيمثل 102 ضابط قريباً أمام المحاكم.