البروفيسور يصدم الأتراك ويخوض جولة خطابات «نعم» لاستفتاء 12 أيلولأرنست خوري
خلع وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو، ربطة عنقه التي تلازمه منذ صفوف جامعات بوغ عزيشي ومرمرة وبيكنت التي حاضر فيها، وواصلت مرافقته سفيراً، ولتبقى متدلّية على صدره منذ تولى رئاسة دبلوماسية بلاده العام الماضي.
خلعها أخيراً ليتركها في مكتبه الوزاري إلى جانب كتبه ومؤلفاته وهاتفه الذي لا يهدأ على خطوط عواصم العالم، وليرتدي ثياباً صيفية تلائم درجات الحرارة القياسية وحرّ الأجواء الرمضانية، ويتجه إلى المدن التركية حيث يخوض جولات شعبية لإقناع مواطنيه بالتصويت لمصلحة استفتاء 12 أيلول على التعديلات الدستورية الهادفة إلى تقريب تركيا من معايير الدول الغربية من نواحي الديموقراطية والإدارة الحديثة والقضاء المستقل.
مشهد داوود أوغلو، وهو يجول بين الجماهير ويحدّث الكهول كما الأطفال أذهل الأتراك، حتى إنه صدمهم وفق تعبير صحيفة «حرييت» التي لا تبدو مسرورة بجولاته هذه. كيف لا، وهي الأقرب إلى المعارضة، حاملة لواء الـ«لا» للتعديلات الدستورية.
ليس عيباً على «حرييت» والمعارضة قاطبة أن تستشعر شراً من المهمة الجديدة لوزير الخارجية، بما أن الجميع يعرف مدى تأثير البروفيسور على قرار مصيري بحجم استفتاء 12 أيلول.
«الصدمة» (أكانت إيجابية أم سلبية) التي شعر بها البعض إزاء إقدام داوود أوغلو على «الانزلاق» إلى مستنقع السياسة الداخلية، ليست سوى نتيجة لكون هذا السلوك غير مسبوق من البروفيسور، كما يحلو لرجب طيب أردوغان وفريقه الحزبي والحكومي مناداته. فهو، منذ عرفه الأتراك أستاذاً جامعياً، ثمّ سفيراً، ومن ثمّ مستشاراً لرئيسي الجمهورية والحكومة، وأخيراً رئيساً لامعاً للدبلوماسية التركية، يعمل في السياسة بـ«أناقة» أو «بورجوازية» إن صحّ التعبير. كان، حتى نزوله إلى الشارع قبل أسبوعين، بعيداً كل البعد عن الشعبوية (سمة يبرع فيها أردوغان) وعن الحزبية حتى، علماً بأنه ليس نائباً ولا عضواً في الحزب الحاكم «العدالة والتنمية»، مع أنّ بعض التقارير تتحدث عن احتمال ترشيحه لانتخابات 2011. إنه نموذج لـ«رجل الدولة» الذي لا يصرخ ولا يغضب ولا يثور ولا يبكي. لطالما سعى داوود أوغلو إلى تقديم نفسه على أنه وزير عالمي بصداقاته ونفوذه وشهرته وبراعته. إلا أنّ شيئاً ما دفعه إلى «الخروج عن شخصيته» ليقرر النزول إلى الميدان، ويجول في طول البلاد وعرضها ليبثّ الحماسة في نفوس مواطنيه... لأنّ بإمكان الدبلوماسية أن تنتظر قليلاً.
وسعى داوود أوغلو إلى الربط بين موضوع اهتمامه المحلي الحالي، أي الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وموقع تركيا الخارجي عبر القول إنّ «العالم ينظر إلى الاستفتاء من منظار أنه أداة لتعزيز الديموقراطية، وبالتالي فإنّ تركيا ستصبح قوة صاعدة وستأخذ مكانتها العالمية بين أكبر عشرة اقتصادات في العالم إن أردنا حصول ذلك». هكذا، أصبح قول نعم للاستفتاء يعني «رفع الموقع الدولي لتركيا، بينما سيشير رفض الاستفتاء إلى سيادة عقلية معادية للحضارة» على حد تعبيره. وتابع: «رغم أنّ التعديل الدستوري المقدَّم ليس كافياً، إذ إنه مجرد بداية، فإن وافقتم عليها فسأشعر بأنني أقوى في الخارج». هكذا «أفتى» مهندس السياسة الخارجية التركية لتبرير جولاته الداخلية، فهو في النهاية «سياسي حقيقي من ناحية أنه يفهم كيف لا يمكن التعاطي مع الدبلوماسية كمعطى مستقل عن الشؤون الداخلية». بهذه العبارات ردّ مسؤول حكومي على استفسارات الصحف على مشاركة داوود أوغلو في حملة الاستفتاء.
وبدا أنّ الوزير يتمتع بقدرات خطابية استثنائية، بدليل أنّه اختير لـ«يصلح ما أفسده» زعيم المعارضة القوي، كمال كليتش دار أوغلو. وأين؟ في واحدة من أكثر المناطق حساسية، أي في مسقط رأس داوود أوغلو، في محافظة كونيا، في داخل الداخل الأناضولي. وبعدما جال، مطلع الشهر الجاري، في مناطق كهرمانماراش وكيليس، عاد ليمضي 3 أيام في مهرجانات خطابية في كونيا خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، بعد وقت قليل من مهرجانات زعيم حزب «الشعب الجمهوري» كليتش دار أوغلو.
وفي خطاباته، شدّد داوود أوغلو على أنه جاء «ليحثّ على تعبئة رقم كبير من النعم للاستفتاء»، مدغدغاً مشاعر أهالي منطقته كونيا بالتذكير بأنّ هذه المدينة «كانت تاريخياً طليعية في تقرير مصير تركيا».
ولم تكن «حرييت» وحدها من سَخِر من داوود أوغلو؛ ففي خطاب ألقاه في ظلّ درجة حرارة وصلت إلى 35، بدا أنّ صيام الوزير أثّر قليلاً على تركيزه، فدعا إلى «قول لا» في 12 أيلول، قبل أن يستدرك زلّة لسانه بسرعة بديهة، محاولاً الإيحاء بأنه قصد الطلب من أنصار حكومته «قول لا لمَن لمن يقول لا للاستفتاء».