تحولت جمهورية تشيكيا خلال العقد الماضي الى إحدى أهم الدول السياحية في العالم. ومثّلت براغ، عاصمتها وإحدى أكبر مدنها، نقطة جذب السياح من مختلف الأنحاء. ولكن لا يمكن التجوال في براغ من دون استحضار الماضي والقراءة في حاضرها السياسي، وخصوصاً أنها دخلت العولمة من أوسع أبوابها، وحققت خطوات كبيرة في مسيرة الانضمام الى الاتحاد الأوروبي
براغ ــ جنى نصر الله
هو المكان الذي تنتابك رغبة الضياع في أزقته، لا بل ترغب لو أن الزمان يتركك لحالك، ينساك لبعض الوقت أو ربما لكل الوقت. ما حاجتك اليه. أنت هنا في حضرة التاريخ، تعبث في صفحاته، وتتسكع في قصوره وقلاعه. وتنعس على ضفاف نهر الفلتافا فتغفو على موسيقى موزار تنبعث من مسرح في الساحة القديمة سبق أن أحيا فيه أماديوس أولى حفلاته في هذه العاصمة. تستيقظ مع شروق الشمس او عند مغيبها، أو قد لا ترغب في الاستيقاظ، فأنت هنا ملك في حضرة الملوك وقيصر في حضرة القياصرة وواحد من أباطرة ذلك الزمان. صديقاك الملك كارل الرابع والقديس فاتسيلاف الذي يمطتي فرسه في وسط ميدان يحمل اسمه في الساحة القديمة. إنها براغ، عاصمة السحر والإغراء، والخدر اللذيذ. إنها براغ، عاصمة التسكع والشرود والانزواء الذي لا تريد له أن ينتهي. إنها العاصمة التي أبقت كتاب تاريخها مفتوحاً، وجعلت منه حاضراً يستقطب ملايين السياح سنوياً. تاريخ تعتز به وتقدمه على أطباق من ذهب تغطي قمم كنائسها وقصورها ومعالمها الأثرية، ما جعلها تستحق لقب المدينة المذهبة، ومدينة المئة برج ربطاً بعدد الأبراج الأثرية التي تتوزع في أرجائها.
تصل الى هذه المدينة مزوّداً صوراً وأوصافاً وحكايا استقيتها ممن سبقوك الى زيارتها. تحمل ذاكرتك السياسية وتفردها أمامك لتصبح رفيقتك في تفقدك الأولي للمكان. نشوء الدولة التشيكوسلوفاكية عام 1918، وصول الحزب الشيوعي الى السلطة عام 1948، «ربيع براغ» عام 1968، وانهيار المعسكر الاشتراكي و«الثورة المخملية» عام 1989، الانفصال عن سلوفاكيا عام 1993 والانضمام الى الاتحاد الأوروبي عام 2004، وأخيراً، وليس آخراً، زيارتا الرئيس الأميركي باراك أوباما لإعلان رؤيته لعالم خالٍ من الأسلحة الذرية، وثانياً لتوقيع معاهدة ستارت 2 في نيسان 2009.
أفكار وصور وصراع فكري وايديولوجيات تقابلها رغبة في التفلت من كل التعقيدات اليومية وإطلاق العنان لمزاج وأهواء أرهقتها القوانين والنظم بممنوعاتها ومحرّماتها. ولكن الرغبة تسقط فجأة أمام شهوة التحليل والمقارنة بين الماضي والحاضر، التي تفرض نفسها عليك رغم أنها زيارتك الأولى للبلاد. تقارن بما سمعت وقرأت وتعلمت وعايشت وناصرت، أنت القادم من بيئة يسارية لم تعد تحسن سوى التغني بأمجاد غابرة.

قبل وبعد

يصدمك مشهد مسنّة تبحث في القمامة عن عبوات فارغة لتبيعها مقابل بضع كورونات
ما قبل الشيوعية وما بعدها: تطاردك المقارنة لا بل ترهقك لما فيها من إسقاطات على حال الأحزاب اليسارية في بلادك وعالمك العربي. تؤنب الجيل الشاب بنظراتك، تحمّله مسؤولية انهيار النظام الاشتراكي، تثيرك «سعادته» في التهام الهمبرغر والبيتزا وسواها من الوجبات السريعة، تستفزك مواكبته آخر صيحات الموضة. يصدمك العدد الهائل لصالات القمار والكازينوهات التي تنتشر مثل الفطر من دون أي رقابة. وقبل أن تنجح في استيعاب ما يجري من حولك، تلفحك رائحة الحشيش المنبعثة من أحد الأزقة، حيث يتجمع شبان لا تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة، يدخنون سجائرها. تسخر من هذا الجيل الذي يدفع ضريبة باهظة مقابل حرية اشتراها من دون أن يدقّق في النوعية والمواصفات. تنهره متسائلاً «هل تستحق هذه الكماليات الملغومة بأشكال من الفساد الارتماء في أحضان الغرب؟». ولا تستفيق من هذا السجال الداخلي إلا على مشهد مسن يبحث في القمامة أو سيدة تجمع العبوات الفارغة وتدوسها برجلها بعصبية واضحة، قبل أن تحشرها في كيس تبيع محتوياته لاحقاً مقابل بضعة كورونات تكاد لا تؤمن لها قوتها من وجبات بلدها التقليدية. تحسم السجال وتقول: «الوقوع على مثل هذه المشاهد كان مستحيلاً في العصر الاشتراكي»، علماً أنك تقر بصوت خفيض أن النظام الاشتراكي ارتكب سلسلة أخطاء مميتة. ولكن السجال يرفض أن ينتهي والمقارنة تأبى أن تستسلم بسهولة، وخصوصاً حين تلمس أن هناك محاولة طمس كاملة للتاريخ الاشتراكي، وكأن البلاد انتقلت مباشرة من القرون الوسطى الى عضوية الاتحاد الأوروبي. واذا جاء أحدهم على ذكر عصر الاشتراكية، فبهدف تحميله مسؤولية كل المشاكل السياسية والاجتماعية وصولاً الى الطباع البشرية الخاصة بالشعب التشيكي، علماً أن النمو الذي عرفته براغ بين عامي 1948 و1989 جعلها تلتحق تدريجياً بأهم العواصم الأوروبية. ولكن الشعب التشيكي لا يعترف بذلك، بل يرى مثلاً أن الفساد هو تركة النظام الاشتراكي، الذي مضى على انهياره اكثر من عشرين عاماً. وعدم إتقان اللغة الإتكليزية هو أيضاً نتيجة لهذا الزمن المغضوب عليه، علماً أن جيلاً كاملاً تخرج من جامعات علمت أبناءها في ظل النظام الديموقراطي والانفتاح والحرية. العدائية وانعدام الود والتعامل السلبي مع السياح والضيوف والاستياء من أي سؤال يطرحونه، حتى لو كان من نوع «من أين الطريق؟»، يتحمل مسؤوليته النظام السابق. إنه، باختصار، المشجاب الذي يُعلق عليه التشيكيون كل أخطائهم ومشاكلهم وتعثراتهم. وحده الجيل المخضرم لا يزال يحنّ الى ذاك العصر ويترحم على أيامه. ولعل هذا ما يبرر أن تكون كتلة اليسار، التي تضم الشيوعيين السابقين، ثالث اكبر كتلة بعد الحزب الديموقراطي واتحاد الديموقراطيين المسيحيين اللذين يتكوّن منهما الائتلاف الحكومي. أما السواد الأعظم من الشباب، فيعيش في المقلب الآخر، والمقارنة بالنسبة اليهم غير واردة أصلاً، لأن الإجابة محسومة لمصلحة النظام الحالي. ولا إمكان للاستفاضة في النقاش لأنهم ينهونه بإجابة واحدة: «أصبحنا نملك حرية التنقل والسفر». وعن أحوال المعيشة والغلاء وعدم توافر فرص عمل وسواها من المشاكل، التي لم تكن مطروحة إبّان النظام الاشتراكي. تقتصر الإجابة على هزة من الرأس وقلب الشفتين!
لا يوحي التشيكيون أنهم شعب يحب التواصل أو النقاش، لا في ما بينهم ولا مع الشعوب الأخرى. ويبدون كما لو أن اهتماماتهم محصورة بشؤونهم الخاصة جداً، فلا السياسة تعنيهم ولا التحالفات الإقليمية أو المعاهدات الدولية التي توقعها بلادهم تشغل بالهم. لذا، تُفاجأ حين تعلم من خلال حديث مع سائق سيارة الأجرة (هو من القلة الذين أمكن التواصل معهم) أن التشيكيين لم يكونوا راضين عن الانفصال عن سلوفاكيا، ولو خضع الأمر لاستفتاء شعبي لما جاءت النتيجة لمصلحة الانفصال. أما المفاجأة الأخرى، فتكمن في رفضهم مشروع الدرع الصاروخية الذي كان مقرراً أن يدخل مرحلة التشغيل الكامل بحلول سنة 2012 وفق خطط إدارة الرئيس السابق جورج بوش، وقد مثّل هذا الرفض أحد الأسباب التي دفعت أوباما الى التخلي عن خطط سلفه في هذا الإطار، علماً أن الحكومة التشيكية سحبت اتفاقية من مجلس النواب تتعلق بنشر قاعدة رادارية أميركية في تشيكيا ضمن هذا المشروع، بعد تأكدها من أنه سيرفضها.

رحلة في التاريخ

تُقرر أن ترمي التاريخ الحديث خلفك، وتتجول في قلب الماضي السحيق الحاضر في كل حي وزقاق ومبنى ومقهى في «أم المدائن» براغ، التي يشطرها نهر الفلتافا الى نصفين ليضفي سحراً خاصاً على المكان، ويعوض على تشيكيا عدم إطلالتها على أيّ من البحار.
ما إن تطأ المدينة القديمة حتى تشعر بأنك في متحف في الهواء الطلق تحتاج إلى أيام من المشي والتأمل للإلمام بكل تفاصيله ومحتوياته. إنها متعة بصرية لا تنتهي ونهم حسي لن يعرف الشبع. أما الأزقّة، فتلك حكاية أخرى، والمشي في أنحائها لذة تُعاش ولا تُوصف.
لا تكتمل متعة التسكع في براغ من دون المشي على جسر كارل الشهير، الذي استمر العمل فيه 43 عاماً (1357ـــــ1400)، وعُرف في بادئ الأمر بالجسر الحجري أو جسر براغ قبل أن يطلق عليه عام 1870 اسم جسر تشارلز أو كارل، تيمناً باسم الملك الذي أمر ببنائه. ويمتد هذا الجسر الذي اكتسب شهرة عالمية على مساحة 516 متراً طولاً وعشرة أمتار عرضاً، ويربط ضفتي نهر الفلتافا بعضهما ببعض ويصل ساحة البلدة القديمة التي تحتضن تمثالاً كبيراً للمصلح الديني التشيكي الأبرز يان هوس، بساحة مالا سترانا، التي يمكن منها الصعود مشياً إلى قلعه براغ. هكذا نجح الملك كارل في أن يجعل من براغ ثالث أكبر مدينة في أوروبا قاطبة، حيث وصل عدد سكانها إلى نحو 40 ألف نسمة.
من الجسر الى الميدان القديم، حيث يتجمّع السياح بأعداد كبيرة ورؤوسهم مشرئبّة الى أعلى، كأنهم يعاينون شيئاً في السماء. عيونهم مركّزة على آلات التصوير وأصابعهم تنتظر اللحظة المناسبة للضغط على الزر والتقاط الصورة التي انتظر بعضهم أقل من ساعة لالتقاطها. إنها الساعة الفلكية القديمة «اورلوي» الموجودة على جدار دار البلدية، التي يعود تاريخ صناعتها الى عام 1410.
استراحة المحارب بعد ساعات طويلة من المشي لا بد أن تكون في ميدان فاتيسلاف، حيث المطاعم والمقاهي والنوادي الليلية وحتى المتاجر ودور الأزياء العالمية. تأكل وتشرب وتتسوق في المدينة القديمة التي لم تؤد الضرورات التجارية الى النيل من قدمها. أنت دائماً في حضرة التاريخ حتى لو علت إشارة المطاعم الأميركية والمتاجر العالمية أعرق الأبنية التراثية. هذا التراكم التاريخي الذي حصدته براغ عبر العصور ولم تُلحق به الحرب العالمية الثانية أضراراً فادحة، كما حصل في دول أوروبا الوسطى، استحق إدراجها على لائحة التراث العالمي عام 1992.

... وأخرى في الحاضر

هناك محاولة طمس كاملة للتاريخ الاشتراكي. وكأنّ البلاد انتقلت مباشرة من القرون الوسطى إلى عضوية الاتحاد الأوروبي
حافظت المدينة القديمة في براغ على عراقة مبانيها وجمالية عمارتها وزهو ألوانها، ويعود الفضل في ذلك الى العصر الاشتراكي الذي لم تمنع قوانينه الصارمة تحوّل التراث الى ركام لمصلحة الإنشاءات الحديثة وناطحات السحاب فحسب، بل حالت دون التمدد العمراني الى داخل هذه الوسط الذي سرعان ما أصبح نقطة استقطاب سياحية عالمية عادت بفائدة كبيرة على البلاد. إذ تشير الأرقام الى أن دخل جمهورية تشيكيا من السياحة ارتفع عام 2007 إلى 8,121 مليارات دولار فيما تجاوز عدد السياح الستة ملايين سائح، وهو ما فاق كل التوقعات. ورغم أن قطاع السياحة والخدمات أصبح مصدر الدخل الرئيس في البلاد، إذ ارتفعت نسبة مساهمته في الدخل القومي الى 58 في المئة، تليه الصناعة 38،4 في المئة، والزراعة 2،8 في المئة، فإن البلاد لا تبدو مجهزة فعلياً لتأمين راحة السياح الذين يقصدونها من مختلف دول العالم. فبعد مرور اكثر من عشرين عاماً على انهيار النظام الاشتراكي وركوب موجة العولمة تحت جناحي الانفتاح والديموقراطية تكاد تكون التشيكية لغة التخاطب الوحيدة مع السياح. إذ إن كل المعلومات وأسماء الطرق والمواقع الأثرية والتفاصيل الأخرى التي قد يحتاج اليها السياح في تجوالهم متوافرة باللغة الأم. قد يخال المرء أن التشيكيين لا يحتاجون الى إيلاء مزيد من الاهتمام لهذا القطاع الذي حقق نجاحاً كبيراً رغم كل الثغر التي تعتريه. ولكن لا يبدو هذا الاستنتاج منطقياً، وخصوصاً أن تشيكيا بذلت جهداً استثنائياً ونجحت خلال عشرة أعوام في الانتقال من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق بما يلائم عضويتها في الاتحاد الأوروبي وذلك بشهادة صندوق النقد الدولي، ما استدعى وصف هذه التجربة بالمعجزة التشيكية. هذا الواقع لا ينفي أنّ ملائمة شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي لم تكن أمراً سهلاً. ففضلاً عن الأزمة التي شهدها الاقتصاد التشيكي بسبب العجز في ميزان المدفوعات الذي خلّف ركوداً بين عامي 1997 و1999، أجّلت الحكومة العمل باليورو حتى سنة 2012 بعدما كان مقرراً العمل به اعتباراً من السنة الحالية.
قد يكون الكورون هو صلة الرحم الوحيدة التي لا تزال تربط بين الحاضر الأوروبي والماضي الاشتراكي لتشيكيا، لكنه رابط شكلي، فاليورو حاضر في كل التعاملات اليومية، والتجار جاهزون، لا بل ربما يفضلون أن يتقاضوا بالعملة الصعبة ثمن زجاجة المياه، ومراكز الصيرفة تنتشر انتشاراً عشوائياً وكثيفاً في أنحاء العاصمة حيث ترتفع أسعار العملة الوطنية وتنخفض في مضاربات لا يحكمها أي قانون ولا يفسرها أي منطق. ولكن هذه الصلة لن تدوم طويلاً ولا بد لها أن تنقطع وفق المسار الذي حدد لهذا البلد منذ أن انهار المعسكر الاشتراكي وتدحرجت دوله مثل حجارة الدومينو. عندها ينهي التشيك آخر علاقة، ولو شكلية، تذكّرهم بماضيهم الاشتراكي، ليصبحوا دولة أوروبية كما يشتهون أن يكونوا. دولة أوروبية لا أوروبية شرقية، هذا المصطلح الذي أثار حفيظتهم واعترضوا عليه، معتبرين أن ذلك يضعهم في مصافّ الدول الفقيرة، علماً أن تشيكيا تقع جغرافياً في أوروبا الشرقية وفق الوثائق الرسمية للأمم المتحدة.
بإمكان التشيك شأنهم شأن الشعوب الأخرى أن يعبثوا بالتاريخ، أن يزوّروه يطمسوه أو يتجاهلوه. ولكن في حال الجغرافيا... صعبة.


ملوك وقياصرة

مثّلت براغ منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع الميلادي، في وسط منطقة بوهيميا التاريخية، المركز الأساسي لأقدم حكم ملكي في بوهيميا ومقراً لملوكها. وأقام هؤلاء في القلعة التي بناها البارون بورجيفوي عام 880 على مساحة 4300 متر، والتي سرعان ما تحولت مقراً لسائر الملوك ورؤساء الجمهورية حتى يومنا هذا. لكن براغ ازدهرت فعلياً خلال القرن الرابع عشر على يد قيصر روما وملك تشيكيا وأحد أهم ملوك سلالة لوكسمبورغ كارل الرابع، الذي حولها عاصمة للدولة الرومانية المقدسة، وأمر ببناء البلدة الجديدة، وكاتدرائية القديس فيتوس، وجامعة تشارلز. أما الدور السياسي الذي أدّته براغ على مر العصور، فقد أضفى عليها لمسة سحرية نادرة، حيث اختلطت المدارس والتيارات المعمارية كافة لتكوّن وحدة عضوية تمثلها الأبنية التاريخية بدءاً بالقلاع المستديرة المقبّبة الرومانسية الطراز، مروراً بالأبراج القوتية، والبيوت والقصور الأرستقراطية على طراز مدرسة النهضة، وصولاً الى المعابد اليهودية والكنائس والأديرة على طراز الباروك.